البيت بدون تلك القافية جمع بين القوة والرقة والطلاوة والانسجام حتى أصبح لا يباري في متانته ورصانته ورقته ولكنه مع ذلك قد يستعمل تراكيب ينبو عنها السمع ويمجها الطبع ويستعمل بعض الألفاظ الوحشية الغريبة وبعض الاستعارات البعيدة التي قد توجب صعوبة فهم المعنى الا ان هذا لا يعد عيبا في شاعريته (أولا) لوقوعه نادرا والغالب على شعره خلاف ذلك وهذا لا يكاد يسلم منه شاعر مهما بلغت منزلته علوا في الشعر (ثانيا) ان أبا تمام شعره أقرب إلى شعر العرب الأولى منه إلى شعر المتأخرين فهو كثيرا ما ينحو في شعره مناحي العرب الأولى في أسلوبه واستعماله بعض الألفاظ الوحشية والألفاظ الغريبة وعدم اعتنائه غالبا بتنميق الألفاظ وزخرفتها واستعمال الرقيق منها كما تراه في شعر البحتري والشريف الرضي بل والمتنبي ولعله لبعض ذلك لا ترى في غزله ونسيبه ما في غزل البحتري والمتنبي والرضي من تزويق الألفاظ وزخرفتها وترى شعره في الغزل لا يشبه أشعار الثلاثة غالبا وقد يجاريها نادرا، وعذره في استعمال الألفاظ الغريبة انه كان لا يراها غريبة لسعة اطلاعه وأنسه بألفاظ العرب كلها كما أنه لأنسه بتراكيب العرب الأولى كان يستعمل من التراكيب ما لا يستحسنها المتأخرون بل يعدونها من عيوب الشعر، فلذلك عابوه بها كما ستعرف. ولكن العرب لم تكن تعدها معيبة. وأما استعماله الاستعارات البعيدة فهو قد أكثر في شعره من الاستعارة لأنها من المحسنات البديعية، وبسبب إكثاره منها وقع فيها بعض الاستعارات البعيدة وأكثرها استعارات مستحسنة بديعة، كما أنه أكثر من أنواع البديع في شعره لا سيما التجنيس والمقابلة والطباق وغير ذلك، كما ستعرف، فربما جاء فيها تجنيسات غير مستحسنة، وجلها مستحسن مستملح. وذكر جامع ديوان أبي نواس في مقدمته عن ابن دريد قال: سألت أبا حاتم السجستاني عن شعر أبي تمام فقال: سيل كثير الغثاء غزير الماء جم النطاف فإذا صفى فهو السلاف بالماء الزلال. وسنذكر نماذج من تراكيبه التي سلك فيها مسلك العرب الأوائل وبعض ألفاظه الغريبة عند الكلام على من عاب شعره.
تصرفه في المعاني ومن محاسنه التي دلت على رسوخ قدمه في صنعة الشعر تصرفه في المعاني، ونعني به أن يعمد الشاعر إلى معنى مبذول فيتصرف فيه تصرفا يكسوه رونقا وجمالا ويكسبه روعة وقبولا، وهذا كثير في شعر أبي تمام كقوله في مطلع قصيدة:
يا موضع الشدنية الوجناء * ومصارع الإدلاج والإسراء فان وصف المرء بكثرة الأسفار وملاقاة الشدائد معروف مألوف لكن التصرف فيه بوصفه بمصارعة الادلاج والاسراء كساه رونقا واكسبه روعة وجعله عزيزا نادرا، وقوله:
عطايا هي الأنواء إلا علامة * دعت تلك أنواء وهذي مواهبا فان تشبيه الكريم بالسحاب الماطر أو الكرم بالمطر كثير شائع مبذول، لكن التصرف فيه بادعاء أن العطايا والأنواء شئ واحد حقيقة إلا أن هذه لها علامة أوجبت ان تدعى انواء وهذه لها علامة أوجبت ان تدعي مواهبا كشيئين من صنف واحد لأحدهما علامة صفراء وللآخر علامة بيضاء أكسبه حسنا وجمالا وجدة. ويأتي في أخباره قول محمد بن عبد الملك الزيات له حين مدحه بالقصيدة التي منها:
ديمة سمحة القياد سكوب * مستغيث الثرى المكروب لو سعت بقعة لإعظام نعمى (1) * لسعى نحوها المكان الجديب (إنك لتحلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسنا على بهي الجواهر في أجياد الكواعب). فتراه كيف تصرف في هذا المعنى المبذول فوصف الديمة بأنها سمحة القياد ونسب الكرب إلى الثرى المجدب ونسب إليه الاستغاثة بالديمة التي تكشف كربه فتجعله أخضر ناضرا ثم جعل هذه الديمة نعمى على المكان الجديب وقال: لو كانت بقعة تسعى لاعظام نعمى لسعى المكان الجديب نحو هذه الديمة. وقد أكثر الناس في ذم الشيب والتبرم به وتصرفوا في وصفه لكن لم يقل فيه أحد ما قاله أبو تمام من تشبيهه بدخان نار الليالي بقوله:
وكيف على نار الليالي معرسي * إذا كان شيب العارضين دخانها وقال:
ثم فما زارك الخيال ولكنك * بالفكر زرت طيف الخيال وقال:
إني لأستحيي يقيني أن يرى * لشكي في شئ عليه دليل فان وصف اليقين بأنه ثابت لا يدخله الشك كثير مبتذل ولكن جعل نفسه يستحيي ان يرى لشكه دليلا على يقينه جعل المعنى بديعا نادرا.
وقال:
بخلت على عرضي بما فيه صونه * رجاء اجتناء الجود من شجر البخل فان لوم النفس على طلب الجود من البخيل معنى مبذول ولكن جعل شجر للبخل يريد اجتناء الجود منه جعله معنى طريفا وقال:
جرد لي من هواه ودا * صار رقيبا على الرقيب وقال:
فمن مات من حب فاني ميت * لئن دام ذا من شدة البغض للحب وقال:
تاهت على صورة الأشياء صورته * حتى إذا كملت تاهت على التيه وقال:
الفخر مفتخر به وبه نما * وإليه حين سما إلى العلياء وقال: لو قيل للحسن تمنى المنى * إذا تمنى انه مثله اختراعه للمعاني وزيادته فيما يأخذه قال الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك: وليس أحد من الشعراء أعزك الله يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام ومتى اخذ معنى زاد عليه ووشحه ببديعه وتمم معناه فكان أحق به، وكذلك الحكم في الأخذ عند العلماء بالشعر كقول أوس بن حجر:
أقول بما صبت علي غمامتي * وجهدي في حبل العشيرة أحطب