فقال أبو تمام:
فلو كان يفنى الشعر أفنته ما قرت * حياضك منه في العصور الذواهب ولكنه صوب العقول إذا انثنت * سحائب منها أعقبت بسحائب وكقول النابغة الجعدي في صفة الحرب في قصيدة:
ألم تعلموا ما ترزأ الحرب أهلها * وعند ذوي الأحلام منها التجارب لها السادة الأشراف تأتي عليهم * فتهلكهم والسابحات النجائب وتستسلم الدهم التي كان ربها * ضنينا بها والحرب فيها الحرائب وقال أبو تمام: (والحرب مشتقة المعنى من الحرب) وقال إبراهيم بن المهدي:
هم هيجوا الحرب واسم الحرب قد علموا * لو ينفع العلم مشتق من الحرب اختلاف الناس في أبي تمام يظهر مما ذكر المؤرخون وعلماء الأدب انه قد كان في عصر أبي تمام وبعده جماعة يعيبونه ويطعنون في كثير من شعره، ولا عجب فمن هو من العظماء خلا من قادح يبعثه الحسد أو العداوة أو الجهل على القدح أو حب الاستشهار حتى يتبجح عند الجهلة بأنه يعيب الشعراء والعظماء. قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في رسالته التي أرسلها إلى أبي الليث مزاحم بن فاتك في تأليف أخبار أبي تمام الطائي وشعره: فإنك جاريتني آخر عهد التقائنا فيما أفضنا فيه من العلوم أمر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وعجبت من افتراق الناس فيه حتى ترى أكثرهم والمقدم في علم الشعر وتمييز الكلام منهم والكامل من أهل النظم والنثر فيهم يوفيه حقه في المدح ويعطيه موضعه من الرتبة ثم يكبر باحسانه في عينه ويقوي بابداعه في نفسه حتى يلحقه بعضهم بمن يتقدمه ويفرط بعض فيجعله نسيج وحده وسابقا لا مساوي له. وترى بعد ذلك قوما يعيبونه ويطعنون في كثير من شعره ويسندون ذلك إلى بعض العلماء ويقولونه بالتقليد والادعاء إذ لم يصح فيه دليل ولا أجابتهم إليه حجة ورأيت مع ذلك الصنفين جميعا وما يتضمن أحد منهم القيام بشعره والتبين لمراده بل لا يجسر على إنشاد قصيدة واحدة له إذ كانت تهجم لا بد به على خبر لم يروه ومثل لم يسمعه ومعنى لم يعرف مثله فعرفتك أن السبب كما ذكرت وتضمنت لك شرح ما وصفت حتى لا يعارضك شك ولا يخامرك ريب منه فرأيت من سرورك بذلك ما حداني على استقصائه لك والتعجيل به عليك وإهدائه في رسالة إليك تتبعها أخباره كاملة في جميع فنونه في تفضيله وذكر من عرفه فقدمه وقرظه والاحتجاج على من جهله فأخره وعابه ومع من كان يمدحه ويراسله وينتجعه طارئا إليه واذكر جميع ما قيل فيه وإن كان قصدي تبيين فضله والرد على من جهل الحق فيه فأضعف لذلك سرورك وزاد له نشاطك (اه). وحكى صاحب كشف الظنون عن الخطيب التبريزي أنه قال في شرحه لديوان أبي تمام: إني نظرت في شعر أبي تمام وفيما ذكر فيه من التفسير فرأيت بعضهم ينحي عليه ويهجن معانيه ويزيف استعاراته وبعضهم يتعصب له ويقول: من جهل شيئا عابه (اه). ثم حكى الخطيب عن أبي علي أحمد بن محمد المرزوقي ان له كتابا اسمه الانتصار من ظلمة أبي تمام وهو يدل على وجود جماعة عابوا أبا تمام ظالمين له فاحتاج إلى أن يعمل كتابا ينتصر له فيه من ظلمهم. وقال المسعودي في مروج الذهب: الناس في أبي تمام في طرفي نقيض متعصب له يعظمه أكثر من حقه ويتجاوز به في الوصف ويرى ان شعره فوق كل شعر ومنحرف عنه معاند له فهو ينفي عنه حسنه ويعيب مختاره ويستقبح المعاني الظريفة التي سبق إليها وتفرد بها، ولأبي تمام أشعار حسان ومعان لطاف واستخراجات بديعة، وحكي عن بعض العلماء بالشعر انه سئل عن أبي تمام فقال كأنه جمع شعر العالم فانتخب جوهره (اه). ومر قول الأغاني إنه شاعر مطبوع دقيق المعاني غواص على ما يستصعب منها ويعسر متناولة على غيره. ويأتي قول الصولي: أبو تمام رأس في الشعر مبتدئ لمذهب سلكه كل محسن بعده فلم يبلغه فيه حتى قيل مذهب الطائي، وكل حاذق بعده ينسب إليه ويقتفي اثره. وفي الأغاني أيضا السليم من شعر أبي تمام النادر شئ لا يتعلق به أحد له وأشياء متوسطة ورديئة رذلة جدا، وفي عصرنا من يتعصب له فيفرط حتى يفضله على كل سالف وخالف وأقوام يتعمدون الردئ من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك ليقول الجاهل بهم إنهم لم يبلغوا علم هذا وتمييزه إلا بأدب فاضل وعلم ثاقب، وهذا مما يتكسب به كثيرا من أهل هذا الدهر ويجعلونه وما جرى مجراه من ثلب الناس وطلب معايبهم سببا للترفع وطلبا للرياسة.
الاستشهاد بشعره مر عند الكلام على أقوال العلماء فيه. عن كتاب خزانة الأدب أن الشيخ الرضي استشهد بشعر أبي تمام في عدة مواضع من شرح الكافية.
وأن الزمخشري استشهد أيضا في تفسير أوائل البقرة من الكشاف ببيت من شعره.
الشاهدون بتقدم أبي تمام وقد اعترف لأبي تمام بالتقدم في صناعة الشعر أعاظم العلماء والأدباء والشعراء فقال له إبراهيم بن العباس الصولي أمراء الكلام رعية لاحسانك. وقال الآمدي في الموازنة: أبو تمام صيقل المعاني وقال ابن رشيق في العمدة: إن أبا تمام والبحتري أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد. وقال الصولي في أخبار أبي تمام: ولا أعرف أحدا بعد أبي تمام أشعر من البحتري ولا أغض كلاما ولا أحسن ديباجة ولا أتم طبعا وهو مستوي الشعر حلو الألفاظ مقبول الكلام يقع على تقديمه الاجماع وهو مع ذلك يلوذ بأبي تمام في معانيه، فأي دليل على فضل أبي تمام ورياسته يكون أقوى من هذا. وقال أيضا: ومن تبحر شعر أبي تمام وجد كل محسن بعده لائذا به كما أن كل محسن بعد بشار لائذ ببشار ومنتسب إليه في أكثر إحسانه (اه). ومر في ترجمة المتنبي أنه قال: أو يجوز للأديب ان لا يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر وأنه كان يروي جميع شعره، وأنه أنكر ما نسب إليه من أنه كان يضع منه. وسيأتي أن محمد بن عبد الملك وإبراهيم بن العباس الصولي اتفقا على أن أبا تمام أشعر أهل زمانه، وأن عمارة بن عقيل اعترف بأنه أشعر الناس، قال الصولي والعلماء يقولون جاء عمارة بن عقيل على ساقة الشعراء، وأن علي بن الجهم - ومكانته في الشعر والأدب مكانة عالية - كان يفضله، قال الصولي سمعت أبا إسحاق الحري يقول كان علي بن الجهم من كملة الرجال وكان يقال:
علمه بالشعر أكبر من شعره. وقال البحتري: كان علي بن الجهم عالما بالشعر (اه) وأن محمد بن حازم كان يقدمه ويفضله، وأن محمد بن جابر الأزدي كان يتعصب له ومر قول دعبل عن شعر أبي تمام أنه أحسن من عافية بعد يأس، وقول يزيد المهلبي: ما كان أحد من الشعراء يقدر على أن يأخذ درهما بالشعر في حياة أبي تمام، وإعجاب أبي دلف العجلي بشعره ومبالغته في الثناء عليه، وكذلك الحسن بن رجاء الذي قام عند سماع