بالمأمون على ما مر، وقد صرح في الأولى منهما بأن عمره يومئذ كان ستا وعشرين سنة، وكان ذلك بعد اشتهار صيته، فلا بد أن يكون تعاطى نظم الشعر وعمره عشرون سنة أو أقل منها. قال يمدحه من قصيدة:
أبدت أسى أن رأتني مخلس القصب * وآل ما كان من عجب إلى عجب (القصب) جمع قصبة وهي الخصلة من الشعر، ومخلس بوزن اسم المفعول أي فيه سواد وبياض أصله من أخلس النبات أي اختلط رطبه بيابسه فينبت الرطب في أصل اليابس، فشبه به الشعر الذي فيه سواد وبياض، والمعنى أنها حزنت لما رأت شيبي، وعاد ما كان منها من عجب بشبابي إلى عجب من مشيبي.
ست وعشرون تدعوني فأتبعها * إلى المشيب ولم تظلم ولم تحب (لم تحب) من الحوبة وهي الذنب. لما كان سن ست وعشرين هو من ريعان الشباب وكان الشيب فيه على خلاف العادة كان مظنة أن يقال ظلمته الأيام وأذنبت إليه فشيبته في غير أوان الشيب فدفع ذلك بقوله ولم تظلم ولم تحب وفسر ذلك بقوله بعده.
يومي من الدهر مثل الدهر مشتهر * عزما وحزما وساعي منه كالحقب فأصغري أن شيبا لاح بي حدثا * وأكبري أنني في المهد لم أشب ثم قال:
لا يطرد الهم إلا الهم من رجل * مقلقل لبنات القفرة النجب ماض إذا الهمم التفت رأيت له * بوخدهن استطالات على النوب ستصبح العيس بي والليل عند فتى * كثير ذكر الرضى في ساعة الغضب صدفت عنه ولم تصدف مواهبه * عني وعاوده ظني ولم يخب كالغيث إن جئته وافاك ريقه * وإن ترحلت عنه لج في الطلب خلائق الحسن استوفي البقاء فقد * أصبحت قرة عين المجد والحسب كأنما هو من أخلاقه أبدا * وإن ثوى وحده في جحفل لجب صيغت له شيمة غراء من ذهب * لكنها أهلك الأشياء للذهب لما رأى أدبا في غير ذي كرم * قد ضاع أو كرما في غير ذي أدب سما إلى السورة العلياء فاجتمعا * في فعله كاجتماع النور والعشب بلوت منه وأيامي مذممة * مودة وجدت أحلى من الشنب من غير ما سبب ماض كفى سببا * للحر أن يعتفي حرا بلا سبب وقال يمدحه أيضا من قصيدة:
أأيامنا ما كنت إلا مواهبا * وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا سنغرب تجديدا لعهدك في البكا * فما كنت في الأيام إلا غرائبا ومعترك للشوق أهدى به الهوى * إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا كواعب زارت في ليال قصيرة * تخيلهن لي من حسنهن كواعبا وجوه لو أن الأرض فيها كواكب * توقد للساري لكانت كواكبا سلى هل عمرت القفر وهي سباسب * وغادرت ربعي من ركابي سباسبا وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق * وشرقت حتى قد نسيت المغاربا ومن لم يسلم للنوائب أصبحت * خلائقه طرا عليه نوائبا وقد يكهم السيف المسمى منية * وقد يرجع السهم المظفر خائبا فآفة ذا ان لا يصادف راميا * وآفة ذا أن لا يصادف ضاربا إلى الحسن اقتدنا ركائب صيرت * لها الحزن من أرض الفلاة ركائبا وكنت امرءا ألقى الزمان مسالما * فآليت لا ألقاه إلا محاربا لو اقتسمت أخلاقه الغر لم تجد * معيبا ولا خلقا من الناس عائبا عطايا هي الأنواء إلا علامة * دعت تلك انواء وهذي مواهبا خدين العلى أبقى له البذل والنهى * عواقب من عرف كفته العواقبا يطول استشارات التجارب رأيه * إذا ما ذوو الرأي استشاروا التجاربا وهل كنت إلا مذنبا يوم أنتحي * سواك بآمالي فجئتك تائبا وله في الحسن بن سهل من أبيات يعاتب بها محمد بن سعيد كاتب الحسن بن سهل.
ولأبن سهل أكف كلما اجتديت * فعلن في المحل ما لا تفعل الديم قوم تراهم غيارى دون مجدهم * حتى كان المعالي عندهم حرم أخباره مع المعتصم.
قد عرفت أنه لما بلغ المعتصم خبر أبي تمام حين شاع ذكره وسار شعره حمله إليه وهو بسر من رأى فعمل فيه أبو تمام عدة قصائد وأجازه المعتصم وقدمه على شعراء وقته، وله فيه قصائد لا تبارى كالبائية التي مدحه بها لما فتح عمورية، والرائية التي مدحه بها حين قتل مازيار وبابك الخرمي والأفشين. وقال الطقطقي في الفخري إن أبا تمام كان قد صحب المعتصم لما فتح عمورية. وفي أخبار أبي تمام للصولي حدثني محمد بن البربري حدثني الحسن بن وهب قلت لأبي تمام أفهم المعتصم بالله من شعرك شيئا قال استعادني ثلاث مرات.
وإن أسمج من تشكو إليه هوى * من كان أحسن شئ عنده العذل واستحسنه ثم قال لابن أبي دؤاد: يا أبا عبد الله! الطائي بالبصريين أشبه منه بالشاميين (اه). وفي هذه دلالة على أن المعتصم لم يكن بصيرا بالشعر. في النجوم الزاهرة كان المعتصم أميا عاريا من كل علم. وعن محمد الهاشمي: كان مع المعتصم غلام في الكتاب يتعلم معه فمات الغلام فقال له الرشيد أبوه يا محمد مات غلامك! قال نعم يا سيدي واستراح من الكتاب. قال وإن الكتاب ليبلغ منك هذا؟ دعوه لا تعلموه. فكان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة (اه). وكان أحمد بن عمار وزير المعتصم فورد على المعتصم كتاب فقرأه الوزير فيه ذكر الكلأ فقال المعتصم ما الكلأ؟ فقال الوزير لا أعلم فقال المعتصم خليفة أمي ووزير عامي ثم سأل ابن الزيات عنه وكان يومئذ من الكتاب ففسره فقلده الوزارة ومن مختار شعر أبي تمام في المعتصم قوله يمدحه ويذكر قتل بابك الخرمي ومازيار بن قارن بن وندان هرمز الديلمي: وباطس أو ناطس بطريق عمورية الأكبر والأفشين واسمه خيذر بن كاوس وصلبهم وكان بابك مجوسيا والخرم الفرح والمجوس يسمون دينهم دين الفرح ويسمون الخرمية وكان بابك تحرك أيام المأمون فلما ولي المعتصم بعث إليه الأفشين وهو من قواده فاسر بابك وقدم به إلى سامراء وقتل وصلب، ومازيار هو ملك الديلم بطبرستان وكان منافرا لعبد الله بن طاهر والي خراسان وكان عبد الله يكتب إلى المعتصم حتى استوحش من مازيار، فلما ظفر الأفشين ببابك طمع الأفشين في ولاية خراسان، فكتب إلى مازيار يستميله، ورجا أنه إذا خالف مازيار سيره المعتصم إلى حربه وولاه خراسان، فعصى مازيار على المعتصم فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربته فحاربه حتى أسر مازيار وبعث به إلى المعتصم فقتله وصلبه إلى جنب بابك، وغضب المعتصم على الأفشين واتهمه بالخيانة