ثم يذكر استبداله به ذكر الآسف المغبون الذي يبرز اسفه بعبارة الدعاء واظهار الرضا التي ظاهرها ذلك وملؤها الأسف والوجد فيقول:
وان يستجد الناس بعدي فلا يزل * بذاك البديل المستجد ممتعا ثم يبدي عذر سيف الدولة بكلام من لا يسعه الا ابداء العذر ونفسه منطوية على خلاف ذلك فيقول:
فان يك بطء مرة فلطالما * تعجل نحوي بالجميل واسرعا وان يجف في بعض الأمور فإنني * لأشكره النعمى التي كان أوزعا ولما كان في أسر الروم امر الملك ان الاسرى يتزاورون يوم السبت فقال أبو فراس:
جعلوا الالتقاء في كل سبت * فجعلناه للزيارة عيدا وشركنا اليهود فيه فكدنا * رغبة ان نزيل عنه اليهودا يرقبون المسيح فيه وما نر * قب الا أخا جليلا ودودا لو قدرنا وعل ذاك قريب * ما عدمنا بالقرب عيدا جديدا أراد بقوله وما نرقب الا أخا الخ أخاه أبا الفضل فإنه كان من جملة الاسرى وفي نسخة مخطوطة من الديوان انه لم يتركه مع الاسرى اكراما له اي أفرده بمكان وحده وكان أبا الفضل كان قد أبطأ عن زيارة أبي فراس فكتب اليه أبو فراس يعاتبه ويذكر ان له مانعا من زيارته والا لما تركها فقال:
أتترك اتيان الزيارة عامدا * وأنت عليها لو تشاء قدير وعيشك لولا ما علمت لما ونت * إلى الدار مني روحة وبكور فلم كان رأيي في لقائك نافذا * ورأيك فيه ونية وفتور يضيق علي الحبس حتى تزورني * فما هو الا روضة وغدير صبرت على هذي فما انا بعدها * على غيرها مما كرهت صبور ولما حصل بالقسطنطينية أكرمه ملك الروم وبجله وعرف له حق الفضل والامارة فافرده بدار واخدمه ولم يعامله معاملة باقي الاسرى وكذلك أكابر دولته كانوا إذا رأوه أو مر عليهم قابلوه بالتعظيم فكفروا له اي تكتفوا كما يفعلون مع عظمائهم وعرض عليه لذلك الفداء منفردا فلم يقبل حتى فادى جميع اسرى المسلمين وضمن الفداء عنهم وجاء بهم معه. قال ابن خالويه قال أبو فراس لما حصلت بالقسطنطينية أكرمني ملك الروم اكراما لم يكرمه أسيرا من قبلي وذلك أن من رسومهم ان لا يركب أسير في المدينة دابة قبل لقاه للملك وان يمشي في ملعب لهم يعرف بالبطوم مكشوف الرأس ويسجد فيه ثلاث ساعات أو نحوها ويدوس الملك رقبته في مجمع لهم يعرف بالنوري فأعفاني من جميع ذلك ونقلني لوقتي إلى دار وجعل لي برطنان يخدمانني وامر باكرامي ونقل إلي من أردته من أسارى المسلمين وبذل لي المفاداة مفردا فكرهت بعد ما وهبه الله لي من العافية ورزقنيه من الكرامة والجاه ان اختار نفسي على المسلمين وشرعت مع ملك الروم بالفداء ولم يكن الأمير سيف الدولة يستبقي أسارى الروم فكان في أيديهم فضلة ثلاثة آلاف أسير ممن اخذ من الاعمال والعساكر أي انه في ذلك الوقت كان في أسر الروم ثلاثة آلاف من المسلمين ولم يكن عند سيف الدولة أحد من أسارى الروم لأنه لم يكن يستبقي أسارى الروم عنده بل إذا كان عند الروم أسارى بعددهم فاداهم بهم والا اخذ الفداء وأطلقهم فلما أسر الروم هؤلاء الثلاثة الآلاف لم يكن عند المسلمين مقابلهم قال أبو فراس فابتعتهم بمائتي ألف دينار رومية وفي رواية عن ابن خالويه بمائتين وأربعين ألفا ومائتي دينار رومية على أن يوقع الفداء واشتري هذه الفضلة فضمنت المال والمسلمين وخرجت بهم من القسطنطينية وتقدمت بوجوههم إلى خرشنة ولم يعقد قبلها قط فداء مع أسير ولا هدنة فقال:
ولله عندي في الأسئار وغيره * مواهب لم يخصص بها أحد قبلي حللت عقودا أعجز الناس حلها * وما زلت لا عقدي يذم ولا حلي إذا عاينتني الروم كفر صيدها * كأنهم اسرى لدي وفي كبلي وأوسع أياما حللت كرامة * كأني من أهلي نقلت إلى أهلي فأبلغ بني عمي وقل لبني أبي * باني في نعماء يشكرها مثلي وما شاء ربي غير نشر محاسني * وان يعرفوا ما قد عرفتم من الفضل ويظهر من هذا الخبر انه عقد الهدنة والمفاداة بنفسه مع ملك الروم وضمن له المال وجاء بالأسرى معه فهل كان ذلك يا ترى بأمر سيف الدولة وبعلمه بعد ما استأذنه فاذن له في المفاداة وهل دفع المال سيف الدولة وأرسله اليه أو رضي ملك الروم بضمانه وبقي في عهدته حتى رجع واخذه من سيف الدولة وأرسله أو دفعه أبو فراس من ماله لم يصرح المؤرخون بشئ من ذلك لكن ظاهر الحال يدل على أن الفداء بأمر سيف الدولة وباذنه وانه هو الذي دفع المال معجلا أو مؤجلا ولو كان لأبي فراس مال لفدى نفسه من أول الأمر وينبغي ان يكون ذلك بعد ما أبطأ عليه سيف الدولة بالجواب ووقعت بينهما الوحشة كما مر ثم عاد فبذل الفداء ولم تطل مدة سيف الدولة بعد هذا الفداء فتوفي بعده بسنة.
اخباره مع المتنبي في اليتيمة كان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته وانما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيبا له واجلالا لا إغفالا واخلالا اه. (أقول) اما انه كان يشهد له بالتقدم فربما يساعد عليه ما في الصبح المنبي من أن أحسن قصائد أبي الطيب هو في سيف الدولة وتراجع شعره بعد مفارقته وسئل عن السبب في ذلك فقال قد تجوزت في قولي وأعفيت طبعي واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان وفيهم من يقول:
تسائلني من أنت وهي عليمة * وهل بفتى مثلي على حاله نكر إلى نهاية عشرة أبيات من هذه القصيدة وفيهم من يقول:
صبور ولو لم تبق مني بقية * قؤول ولو أن السيوف جواب إلى نهاية أربعة ابيات من هذه القصيدة يعني أبا فراس ولعل هذا كان منه بعد مفارقة سيف الدولة حيث خفت دواعي الحسد والمزاحمة منه لأبي فراس. واما انه كان لا يمدحه تهيبا واجلالا فغير صواب والعجب صدور مثله من الثعالبي مع معرفته وفضله فانا لم نر ولم نسمع ان شاعرا ترك مدح أحد تهيبا واجلالا والصواب انه تركه إغفالا واخلالا فإنه مما لا ريب فيه انه كان بين المتنبي وأبي فراس منافسة ومباعدة ولا نستطيع ان نقول إن سببها المتنبي وحده أو أبو فراس وحده أو هما لا نستطيع الجزم بشئ منها لكننا نعلم أن المتنبي كان بجبلته متعاظما معجبا بنفسه يدلنا على ذلك تعاظمه عن مدح الوزير المهلبي والصاحب بن عباد الذي بذل له مشاطرة ما يملك