فالشعراء ما زالوا يقولون في الغزل أمرضني حبها واعل جسمي واجرى دمعي دما وسقيت الأرض بدمعي فنبت فيها العشب وغير ذلك مما لا يحصى كثرة وكل ذلك لا حقيقة له فهل رأى الآمدي أو سمع أن أحدا من هؤلاء الشعراء حصل له شئ من هذه الأمور وانما هي الدعوى فإذا جازت لهم هذه الدعاوى أفلا يجوز لأبي تمام ان يدعي ان الشيب أمرضه فعاده العواد.
وقال من قصيدة:
ألم تر آرام الظباء كأنما * رأت بي سيد الرمل والصبح أدرع لئن جزع الوحشي منها لرؤيتي * لانسيها من شيب رأسي أجزع غدا الشيب مختطا بفودي خطة * طريق الردى منها إلى النفس مهيع هو الزور يجفي والمعاشر يجتوى * وذو الألف يقلى والجديد يرقع له منظر في العين أبيض ناصع * ولكنه في القلب اسود اسفع ونحن نرجيه على الكره والرضى * وانف الفتى من وجهه وهو أجدع وفي خاص الخاص للثعالبي ان قوله غدا الشيب الأبيات أحسن ما قيل في ذم الشيب على كثرته. وقال المرتضى في الشهاب الاحسان في هذه الأبيات غير مجحود ولا مدفوع قوله رأت بي سيد الرمل والصبح أدرع.
في الشهاب: وجدت أبا القاسم الآمدي يفسر ذلك ويقول أراد بسيد الرمل الذئب وقوله (والصبح أدرع) أي أوله مختلط بسواد الليل يريد وقت طلوع الفجر وكل ما اسود أوله وابيض اخره فهو أدرع وشاة درعاء للتي اسود رأسها وعنقها وسائرها أبيض لأن الظباء تخاف الذئب في ذلك الوقت لأن لونه يخفى فيه لغبشته فلا تكاد تراه حتى يخالطها وهو الوقت الذي تنتشر فيه الظباء وتخرج من كنسها لطلب المرعى (اه) وقال المرتضى ان ما ذكره الآمدي مما يحتمله البيت وله حمل أجود منه ان يراد بارام الظباء النساء على التشبيه وبقوله والصبح أدرع الشيب وان بعض شعره أبيض وبعضه أسود فهن ينفرن من شيبه كما ينفرن من ذئب الرمل ثم قال لئن كان الوحشي يجزع من رؤيتي فالانسي منها من شيب رأسي اجزع والا فلا معنى لقوله ان الظباء تنفر منه كما تنفر من الذئب لأنه لا وجه لذلك ولا فائدة فيه ولا سبب ثم اعترض بأنه أي معنى لقوله كأنما رأت بي سيد الرمل لولا أنه أراد بالظباء البهائم دون النساء إذ كيف تنفر النساء من الذئب وانما تنفر منه الظباء الحقيقية وأجاب بأن النساء تنفر من الذئب لا محالة كما تنفر منه الغزلان وما يهابه الرجال وينفرون منه أجدر ان ينفر منه النساء الغرائر ثم اعترض بأنه كيف يصح معنى البيت الثاني لولا أن الوحشية قد نفرت منه ووقع ذلك وخبر عنه في البيت الأول وأجاب بان البيت الثاني لا يقتضي ان يكون الظباء في البيت الأول على الحقيقة لان من المعلوم ان الظباء الوحشية وكل وحش ينفر من الإنس فلما قال إن النساء اللواتي يشبهن الظباء ينفرن من شيبي جاز أن يقول بعد ذلك لئن كانت الظباء الوحشية تنفر مني فالظباء الإنسية لأجل شيبي منهن أنفر قال وبعد فلم نفسد تأويل الآمدي وننكره بل أجزناه وقلنا إن البيت يحتمل سواه (اه) (ونقول) الأولى حمل البيت الأول على الظباء الحقيقية وانما أتى به تمهيدا للبيت الثاني فسقط الاعتراض بأنه لا وجه لذلك ولا فائدة فيه ولا سبب وقال:
جرت في قلوب الغانيات لشيتي * قشعريرة من بعد لين وايناس وقد كنت أجري في حشاهن مرة * مجاري معين لماء في قضب الآس فان أمس من وصل الكواعب آيسا * فآخر آمال العباد إلى الياس وقال من قصيدة:
رعت طرفها في هامة قد تنكرت * وصوح منها بنتها وهو بأرض فصدت وعاضته أسى وصبابة * وما عائض منها وان جل عائض فما صقل السيف اليماني لمشهد * كما صقلت بالأمس تلك العوارض ولا كشف الليل النهار وقد بدا * كما كشفت تلك الشؤون الغوامض وقال من قصيدة:
أصبحت روضة الشباب هشيما * وغدت ريحه البليل سموما شعلة في المفارق استودعتني * في صميم الفؤاد ثكلا صميما تستثير الهموم ما اكتن منها * صعدا وهي تستثير الهموما غرة بهمة ألا انما كنت أغرا أيام كنت بهيما دقة في الحياة تدعى جلالا * مثل ما سمي اللديغ سليما حلمتني زعمتم وأراني * قبل هذا التحليم كنت حليما وقال من قصيدة:
راحت غواني الحي عنك غوانيا * يلبسن نايا تارة وصدودا من كل سابغة الشباب إذا بدت * تركت عميد القريتين عميدا ارببن بالمرد الغطارف بدنا * غيدا ألفتهم لدانا غيدا (1) أحلى الرجال من النساء مواقعا * من كان أشبههم بهن خدودا وهذه الأبيات الأربعة أوردها الشريف المرتضى في كتاب الشهاب في الشيب والشباب في جملة ما أورده من شعر أبي تمام باعتبار اشتمالها على أن الغواني أعرضن عنه لشيبه ولزمن المرد الغطارف.
الخضاب في كتاب الشهاب: لأبي تمام في الخضاب وقيل إنه منحول:
فان يكن المشيب طرا علينا * واودى بالبشاشة والشباب فاني لست أدفعه بشئ * يكون عليه أثقل من خضاب أردت بان ذاك وفا عذاب * فينتقم العذاب من العذاب الطيف والخيال قال الشريف المرتضى في الأمالي ان لأبي تمام في ذلك - أي وصف الخيال - مواضع لا يجهل فضلها ومحاسن لا يبلغ شأوها فمما أورده المرتضى في الأمالي من ذلك قوله:
استزارته فكرتي في المنام * فأتاني في خفية واكتتام فالليالي احفى بقلبي إذا ما * جرحته النوى من الأيام يا لها زورة تلذذت الأرواح * فيها سرا من الأجسام مجلس لم يكن لنا فيه عيب * غير انا في دعوة الأحلام وقال:
حمتنا الطيف من أم الوليد * خطوب شيبت رأس الوليد رآنا مشعري أرق وحزن * وبغيته لدى الركب الهجود سهاد يرجحن الطرف منه * ويولع كل طيف بالصدود وقال وأورده المرتضى في الأمالي: