وبعد فراغي من جمع ديوان أبي فراس وترجمته زارني الشاب النابة الأديب الدكتور سامي الدهان الحلبي، واستعاره مني فبقي عنده أياما واخبرني انه بذل جهودا عظيمة في جمع ديوان أبي فراس وشرح ابن خالويه له فوقف على نحو خمسين نسخة منه في فرنسا وألمانيا وانكلترة والمدينة المنورة ومصر واستانبول ودمشق وحلب وغيرها من العواصم والبلدان الأوروبية والاسلامية وصرف في سبيل ذلك أموالا طائلة وأوقاتا نفيسة وعانى أسفارا إلى هذه البلدان ومشقات في سبيل تحصيل نسخ الديوان حتى اخرج من مجموعها نسخة كاملة صحيحة وجمع بين الألفاظ المتعددة نسخها وراجع في أسماء الأماكن والأشخاص الرومية التي وجدت في شعره ولم تضبط في الكتب العربية الأصول اليونانية وشرع في طبعه واراني مما طبعه 171 صفحة وهو جاد في اكمال طبعه فأعجبت بهمته وجهوده وشكرت له صنيعه. وعلمت ان الله تعالى بعد مرور أكثر من ألف سنة من وفاة أبي فراس شاء ان لا يبقى ديوان أبي فراس على ما كان عليه فسخرني و سخر هذا الشاب النبيل لاحياء ديوان أبي فراس ونشره من رمسه. وقد كتب إلي عن اعماله في جمع هذا الديوان ما صورته:
طفت عواصم أوروبا وحواضرها باحثا منقبا في مكتباتها عن مخطوطات العصر الحمداني بصورة عامة ونسخ ديوان أبي فراس بصورة خاصة فوفقت بعد سياحة ثلاث سنوات إلى اكتشاف نسخ من ديوانه لا تعرف عنها فهارس المكتبات العامة الا انها مخطوطات عربية لشاعر مجهول.
وقد نوهت عن ذلك في احدى مجلات أوروبا وفي مؤتمر المستشرقين ببلجيكا ولفت النظر إلى العناية بها والحفظ عليها وقد وقعت على نسخة (الأم) في برلين فأخذت عنها الديوان رواية ابن خالويه، وقابلت عليها نسخ انكلترا وإيطاليا وفرنسا وهولندا وهي مع نسخ ألمانيا تبلغ العشرين، وقد كاتبت الأستاذ المستشرق الروسي كراتشكوفسكي في الحصول على نسخ ليننغراد فتفضل علي بما طلبت واستجلبت نسختي فاس والرباط وزرت مصر فوجدت في الأزهر وفي التيمورية ودار الكتب المصرية خمس عشرة نسخة واكتشفت في الكنيسة المارونية بحلب نسخة ديوانه واما نسخ استانبول فقد حصلت على ما أريد منها. ولقد ترجمت كتاب (دفورجاك) التشيكي عن أبي فراس في مقدمته بطبعة يتيمة الدهر إلى الفرنسية وحصلت على أكثر من ستين مرجعا من روسي وألماني وانكليزي وإيطالي وفرنسي وترجمتها إلى العربية جميعا.
وتفضلت علي الجمعيات العلمية في أوروبا بمخطوطات المستشرقين الذين حاولوا طبع ديوان أبي فراس فحالت دون اتمامه المنية. كل ذلك إلى مخطوطات تاريخية عن العصر الحمداني صورتها ونقلتها حتى تم لدي من ذلك كله شبه تمام المعلومات التي تهم عصر الشاعر الخالد.
ولقد بلغ عدد نسخ الديوان الخمسين والمخطوطات التاريخية الثلاثين و الدراسات والمصادر ما يقرب من المائة. هذا والله يعلم اني اعتقد بنقص المصادر وفساد أكثر النسخ وقصور عملي هذا وفقري في العلم لا أدعي الكمال وتمام المعرفة ولم اقصد الا نشر النسخ كما هي.
وقد قدمت بين يدي الطبعة بوصف النسخ بالفرنسية وتعداد الدراسات عن الشاعر وقيمتها وتحليل ما في الديوان وقدمت الدراسة الفرنسية هذه إلى (السوربون) فكلفت الأستاذ بلانشير مؤلف (المتنبئ) ان ينقدها وكان من حظي ان اثنى عليها ووقعت من نفسه وفرح بصدورها لأنها تفتح أمامه أفاقا جديدة للعصر الذي كرس له شبابه حين درس المتنبئ اه.
مقتله لم تطل مدة أبي فراس بعد خلاصة من الأسر بل بقي نحو سنتين وقتل وقد ذكر أبو فراس في بعض قصائده ان موته سيكون قتلا فهو يقول:
وقد علمت أمي بان منيتي * بحد سنان أو بحد قضيب كما علمت من قبل ان يغرق ابنها * بمهلكه في الماء أم شبيب وقوله هذا اما من باب أقوال الشجعان انهم لا يموتون حتف الأنف أو ان أمه رأت رؤيا علمت منها ذلك كالرؤيا التي رأتها أم شبيب. وكان سيف الدولة قد مات بعد خلاص أبي فراس بنحو سنة واتفقت الروايات على أن سبب قتله خلاف حصل بينه وبين أبي المعالي شريف بن سيف الدولة خليفة أبيه واختلفت الروايات في أنه هل قتل في المعركة أو بعد اختلاطه بالمستأمنة أو في الطريق بعد ما ضرب ضربات وأسر.
في اليتيمة: دلت قصيدة قرأتها لأبي إسحاق الصابي في رثائه على أنه قتل في وقعة كانت بينه وبين بعض موالي أسرته اه. ورثاء الصابي له محض وفاء وقضاء لحرمة المشاركة في الأدب.
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 357: في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس ابن أبي العلاء سعيد بن حمدان وسبب ذلك أنه كان مقيما بحمص فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى صدد وهي قرية في طرف البرية عند حمص فجمع أبو المعالي الاعراب من بني كلاب وغيرهم وسيرهم في طلبه مع قرعويه فأدركه بصدد فكبسوه فاستأمن جمع من أصحابه واختلط هو بمن استأمن منهم فقال قرعويه لغلام له اقتله فقتله واخذ رأسه وتركت جثته في البرية حتى دفنها بعض الاعراب، وأبو فراس هو خال أبي المعالي بن سيف الدولة ولقد صدق من قال إن الملك عقيم اه.
وقال ابن خالويه في شرح ديوان أبي فراس: لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرعويه فانفذ اليه من قاتله فاخذ وقد ضرب ضربات فمات في الطريق فقال قبل موته:
إذا لم يعنك الله فيما تريده * فليس لمخلوق اليه سبيل وان هو لم ينصرك لم تلق ناصرا * وان عز أنصار وجل قبيل وان هو لم يرشدك في كل مسلك * ضللت ولو أن السماك دليل قال: وبلغني ان أبا فراس رضي الله عنه أصبح يوم مقتله حزينا كئيبا وكان قلقا في تلك الليلة ورأته ابنته امرأة أبي العشائر وهو على تلك الحال فأحزنها حزنا شديدا، ثم ركب وهي على تلك الحال فأنشأ يقول ورجله في الركاب والخادم يضبط السير عليها وانما قال ذلك كالذي ينعي نفسه وان لم يكن من قصده ذلك فقال رحمه الله:
أبنيتي لا تحزني * كل الأنام إلى ذهاب أبنيتي صبرا جميلا * للجليل من المصاب