هبة الأيام: لما تولى أبو الحسن علي بن إسحاق دمشق وأعمالها كان أبو تمام قد نازله بفندق بسر من رأى قبل أن يلي دمشق وعزم سهم بن أوس أخو أبي تمام على الانصراف عن سر من رأى إلى منزله بدمشق وكان أهل بيته بقرية جاسم من عمل دمشق فكتب أبو تمام مع أخيه سهم إلى علي بن إسحاق كتابا يذكر فيه حرمته به وأنسه اليه ومنازلته إياه في الفندق بسر من رأى وجعلها وسيلة لأخيه عنده وضرب له في كتابه مثلا فقال ومثلي مع الأمير أعزه الله مثل عجوز كانت بالكوفة من جرم قضاعة وكان الوالي على الكوفة رجلا من عجل فأجرم ابن العجوز جرما فحبس فتعرضت العجوز للوالي على ظهر الطريق وقالت أصلح الله الأمير لي حاجة ولى بالأمير وسيلة فقال ما حاجتك وما وسيلتك قالت حاجتي ان تطلق ابني من محبسه ووسيلتي إليك ان الشاعر جمعني وإياك ببيت السوء حيث يقول:
جاءت به عجز مقابلة * ما هن من جرم ولا عكل وأنا امرأة من جرم وأنت رجل من عكل فأمر باطلاق ابنها قال أبو تمام وأنا أقول وسيلتي إليك أيها الأمير منازلتي إياك في الفندق بسر من رأى مع فتور الماء وكثرة الذباب وكتب إليه في أسفل الكتاب قصيدة نونية يقول فيها - ولكن في الديوان أنه قالها في أبي الحسن علي بن مرة أراك أكبرت إدماني على الدمن * وحملي الشوق من باد ومكتمن لا تكثرن ملامي إذ عكفت على * ربع الحبيب فلم أعكف على وثن الحب أولى بقلبي في تصرفه * من أن يغادر احشائي بلا شجن من ذا يعظم مقدار السرود بمن * يهوى إذا لم يعظم موقع الحزن العيس والهم والليل التمام معا * ثلاثة أبدا يقرن في قرن أقول للحرة الوجناء لا تهني * فقد خلقت لغير الحوض والعطن ما يحسن الدهر أن يسطو على أحد * إذا تعلق حبلا من أبي الحسن كأنني حين جردت الرجاء له * محضا أخذت به سيفا على الزمن قرم تلين صروف الحادثات له * ولم يخر ساعة منها ولم يلن فتى تريش جناح الجود راحته * حتى يخال بأن البخل لم يكن وتشتري نفسه المعروف بالثمن * الغالي ولو أنها كانت من الثمن له نوال كفيض البحر ممتهن * على الحقوق وعرض غير ممتهن إذا تبدى علي في كتائبه * لم يحجب الموت عن روح ولا بدن كم في الندى لك والمعروف من بدع * إذا تصفحت اختيرت على السنن لي حرمة بك فأحفظها وجازبها * يا حافظ العهد والعواد بالمنن أولى البرية حقا ان تراعيه (تواتيه) * عند السرور الذي آساك في الحزن ان الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا * من كان يألفهم في المنزل الخشن وفي خاص الخاص للثعالبي أن أحسن ما قيل في كرم العهد قول أبي تمام في هذين البيتين الأخيرين. قال البديعي فلما قرأ الكتاب وسمع الشعر حضر سعيد بن عون الشاعر المعروف بالشعباني وكان متمكنا من علي بن إسحاق ولم يكن لأبي تمام محبا فأوقع فيه فقال علي بن إسحاق ومتى نزلت منزلا خشنا أو كنت في ضنك من العيش أو حزن فوصفني به في الشعر.
وحرم سهم بن أوس من صلته. قال والبيتان الأخيران نسبهما بعض المؤرخين لإبراهيم بن العباس الصولي وهو وهم ويدل على أنهما لأبي تمام ما قاله أبو بكر الخوارزمي من رسالة له وأورد الرسالة وذكر أنه قال في آخرها: ولقد شهد له على قضيته قول أبي تمام (أولى البرية حقا ان تواسيه) البيتين قال وشهادة أبي تمام في الكرم تقوم مقام شهادة أمة بل أمم ولئن كان خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين عند الأنبياء والحكام فإن أبا تمام ذو الشهادتين عند الأحرار والكرام اه والموجود في الديوان هو البيت الأول من هذين البيتين دون الثاني وقول علي بن إسحاق السابق ومتى نزلت منزلا خشنا يدل على أن البيت الثاني أيضا لأبي تمام والله أعلم. اخباره مع مالك بن طوق التغلبي وأخيه عمر بن طوق كان مالك بن طوق من الأمراء واليه تنسب رحبة مالك بأرض الجزيرة ولأبي تمام فيه عدة مدائح ثم هجاه فيما زعمه غير الصولي كما ستعرف وكذلك أخوه عمر بن طوق كان من الأمراء ومدحه أبو تمام فمن مدائح أبي تمام في مالك بن طوق قوله يمدحه ويستشفع اليه في قوم من عشيرته أساؤوا من قصيدة أولها:
لو أن دهرا رد رجع جوابي * أو كف من شأويه طول عتابي يقول فيها:
لا جود في الأقوام يعلم ما خلا * جودا حليفا في بني عتاب متدفقا صقلوا به أحسابهم ان السماحة صيقل الأحساب ولقد أجاد كل الإجادة في قوله (ان السماحة صيقل الأحساب) ثم أخذ في الاستشفاع اليه لقومه فأبدع في ذلك وأجاد كثيرا وقدم له مقدمة جميلة ودخل مدخلا حسنا فقال:
يا مالك ابن المالكين ولم تزل * تدعى ليومي نائل وعقاب لم ترم ذا رحم ببائقة ولا * كلمت قومك من وراء حجاب للجود باب في الأنام ولم تزل * كفاك مفتاحا لذاك الباب ورأيت قومك - والإساءة منهم - * جرحى بظفر للزمان وناب فأقل اسامة جرمها واصفح لها * عنه وهب ما كان للوهاب رفدوك في يوم الكلاب وشققوا * فيه المزاد بجحفل غلاب فمضت كهولهم ودبر أمرهم * احداثهم تدبير غير صواب لا رقة الحضر اللطيف غذتهم * وتباعدوا عن فطنة الأعراب فإذا كشفتهم وجدت لديهم * كرم النفوس وقلة الآداب أسبل عليهم ستر عفوك مفضلا * وانفح لهم من نائل بذناب لك في رسول الله أعظم أسوة * وأجلها في سنة وكتاب اعطى المؤلفة القلوب رضاهم * كملا ورد اخائذ الأحزاب وما أحسن وأبدع ما قاله بعد ذلك.
ليس الغبي بسيد في قومه * لكن سيد قومه المتغابي فاضمم قواصيهم إليك فإنه * لا يزخر الوادي بغير شعاب والسهم بالريش اللؤام ولن ترى * بيتا بلا عمد ولا أطناب يا مالك استودعتني لك منة * تبقى ذخائرها على الأحقاب ثم وصف القصيدة بما ذكرناه في موضع آخر وإذا نظرنا إلى قصيدته الثانية في مدحه وجدنا فيهمن جودة النظم وحسن التصرف في المعاني ووجوه البديع والمتانة والقوة والانسجام ما لا مزيد عليه على صعوبة قافيتها ولكنها لم تخل من سقط مشين فمما ابدع فيه من أبياتها قوله:
قف بالطلول الدارسات علائا (1) * أضحت حبال قطينهن رثاثا قسم الزمان ربوعها بين الصبا * وقبولها ودبورها أثلاثا