أو درة بيضاء بكر أطبقت * حملا على ياقوتة حمراء يخفي الزجاجة لونها فكأنها * في الكف قائمة بغير اناء (1) ومنه أخذ الصاحب بن عباد قوله:
رق الزجاج وراقت الخمر * وتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر وقال من قصيدة:
وصفراء أحدقنا بها في حدائق * تجود من الأثمار بالثعد والمعد (2) بقاعية تجري علينا كؤوسها * فتبدي الذي نخفي وتخفي الذي نبدي وقال من قصيدة:
وكأس كمعسول الأماني شربتها * ولكنها أجلت وقد شربت عقلي إذا عوتبت بالماء كان اعتذارها * لهيبا كوقع النار في الحطب الجزل إذا هي دبت في الفتى خال جسمه * لما دب فيه قرية من قرى النمل إذا ذاقها وهي الحياة رأيته * يعبس تعبيس المقدم للقتل الشيب والشباب جمع الشريف المرتضى في كتاب الشهاب في الشيب والشباب 39 بيتا من شعر أبي تمام وفي كتاب الأمالي المسمى بالغرر والدرر الذي صنفه قبل الشهاب 27 بيتا ونحن نذكرها كلها وان كان فيها ما ليس بمختار ونزيد عليها فبلغ مجموعها 50 بيتا قال في الأمالي: وقد أتى الفحلان المبرزان أبو تمام وأبو عبادة في هذا المعنى بكل غريب عجيب. قال أبو تمام من قصيدة.
لعب الشيب بالمفارق بل جد * فأبكى تماضرا ولعوبا خضبت خدها إلى لؤلؤ العقد * دما ان رأت شواتي خضيبا كل داء يرجى الدواء له * إلا الفظيعين ميتة ومشيبا يا نسيب الثغام ذنبك أبقى * حسناتي عند الحسان ذنوبا ولئن عبن ما رأين لقد * أنكرن مستنكرا وعبن معيبا أو تصدعن عن قلى لكفي بالشيب * بيني وبينهن حسيبا لو رأى الله أن في الشيب خيرا (فضلا) * جاورته الأبرار في الخلد شيبا في الشهاب قال الآمدي: ومن يتعصب على أبي تمام يقول إنه ناقض نفسه في هذه الأبيات وقالوا كيف يبكين دما على مشيبه ثم يعبنه قال الآمدي وليس ههنا تناقض لأن الشيب انما ابكى أسفا على شبابه غير الحسان اللواتي يعبنه وإذا تميز من أشفقن عليه ممن عابه فلا تناقض. وقال المرتضى لا حاجة بنا إلى تمحله والمناقضة زائلة عن أبي تمام على كل حال لأنه لا تناقض بين البكى على شبابه ممن بكاه من النساء وتلهفن عليه وبين العيب منهن للشيب والإنكار له بل هذه مطابقة وموافقة ولا يبكي على شبابه منهن الا من رأين الشيب عيبا وذنبا وقد ذكرنا هذا في كتاب الغرر وهذا الذي ذكره وان كان لا يحتاج إلى ما تكلفه قد كان ينبغي ان يفطن لمثله ونظيره في التغاير والتميز لما عابه بقوله (يضحكن من أسف الشباب المدبر) فيجعل الضحك من شئ والبكى من غيره على ما بيناه ولا يحمله بعد الفطنة على أن يجعل الضحك بكاء وفي معناه (اه) وهو يشير بذلك إلى ما ذكره الآمدي في وقول أبي تمام في مطلع قصيدة.
يضحكن من أسف الشباب المدبر * يبكين من ضحكات شيب مقمر قال الشريف المرتضى في الشهاب وجدت أبا القاسم الآمدي يغلو في ذم هذا البيت. وقال هذا بيت ردئ ما سمعت من يضحك من الأسف الا في هذا البيت وكأنه أراد قول الآخر (وشر الشدائد ما يضحك) فلم يهتد لمثل هذا الصواب وقوله (من ضحكات ليل مقمر) ليس بالجيد أيضا ولو كان ذكر الليل لحسن أن يقول مقمر لأنه كان يجعل سواد الشعر ليلا وبياضه بالمشيب أقماره لأن قائلا لو قال أقمر ليل رأسي لكان من أصح الكلام وأحسنه ولو لم يذكر الليل وقال أقمر عارضاك أو فوداك لكان حسنا مستقيما وهو دون الأول وذلك لأنه قد علم أنهما كانا مظلمين فاستنارا (اه) قال المرتضى قوله (يضحكن من أسف الشباب المدبر) يحتمل ان يكون المراد به ان النساء اللواتي يرين بكاء عشاقهن وأسفهم على الشباب المدبر يهزأن بهم ويضحكن منهم. وقوله (يبكين من ضحكات شيب مقمر) الأولى ان يحمل على انهن يبكين من طلوع الشيب في مفارقهن وضحكه في رؤوسهن لأنا لو حملناه على شيب عشاقهن لكان الذي يبكين منه هو الذي يهزأن به وهذا يتنافى فكأنه وصفهن بالضحك والهزء من شئ في غيرهن والبكاء منه إذا خصهن فاما حمل الضحك هاهنا على معنى البكاء وغاية الحزن فهو مستبعد وان كان جائزا ويكون على هذا التأويل يضحكن ويبكين بمعنى واحد فأما عيبه لقوله شيب مقمر ففي غير موضعه وليس يحتاج لي أن يذكر الليل على ما ظنه فكما يقال أقمر ليل رأسك وأقمر عارضاك على ما استشهد به كذلك يقال أقمر شيبك ولا يحتاج إلى ذكر الليل وانما المعنى انه أضاء بعد الظلام وانتشر فيه البياض بعد السواد وليس هذا تتبع من يعرف الشعر حق معرفته ولعمري ان هذا البيت خال من طبع وحلاوة لكن ليس إلى الحد الذي ذكره الآمدي (اه) (وأقول) الأولى ان يحمل البيت على إرادة انهن يضحكن من أسفه وحزنه على شبابه المدبر لأنه حزن على ما لا يرجع. وقد قيل لا تحزن على ما فات ويبكين من ضحك الشيب في رأسه لأن من عادة الشيب ان يكون محزنا لصاحبه وصديق صاحبه وحمله على انهن يبكين من شيب شعورهن بعيد لأنه ليس من عادة الشعراء ان يصفوا شيب النساء ويذكروه في أشعارهم بل يصف الشاعر شيب نفسه وان النساء تنفر منه والذي أوقع أبا تمام في هذا التكلف ولوعه بالمحسنات البديعية فأراد ان يذكر ضحكهن من الحزن وبكاءهن من الضحك ويقابل بين الضحك في الشطر الأول والبكاء في الشطر الثاني فوقع في هذا التكلف. وقال من قصيدة.
أبدت أسى ان رأتني مخلس القصب (3) * وآل ما كان من عجب إلى عجب تسع (ست) وعشرون تدعوني فأتبعها * إلى المشيب ولم تظلم (4) ولم تحب يومي من الدهر مثل الدهر مشتهر * عزما وحزما وساعي منه كالحقب فاصغري ان شيبا لاح بي حدثا * واكبري انني في المهد لم أشب فلا يؤرقك ايماض القتير به * فان ذاك ابتسام الرأي والأدب (5) رأت تغيره فاهتاج هائجها * وقال لاعجها للعبرة انسكبي لا تنكري منه تخديدا تخلله * فالسيف لا يزدري ان كان ذا شطب