فلو تراه مشيحا والحصى زيم * بين السنابك (1) من مثنى ووحدان أيقنت (2) ان لم تثبت ان حافره * من صخر تدمر أو من وجه عثمان ثم قال لي ما هذا من الشعر قلت لا أدر قال هذا المستطرد أو قال الاستطراد. قلت وما معنى ذلك قال يري انه يريد وصف الفرس وهو يريد هجاء عثمان قال الصولي: فاحتذى هذا البحتري فقال في قصيدته التي مدح فيها محمد بن علي القمي ويصف الفرس أولها.
أهلا بذلكم الخيال المقبل * فعل الذي نهواه أو لم يفعل ثم وصف الفرس فقال:
وأغر في الزمن البهيم محجل * قد رحت منه على أغر محجل كالهيكل المبني الا انه * في الحسن جاء كصورة في هيكل يهوي كما تهوي العقاب إذا رأت * صيدا وينتصب انتصاب الأجدل متوجس برقيقتين كأنما * يريان من ورق عليه موصل وكأنما نفضت عليه صبغها * صهباء للبردان أو قطربل ملك العيون فان بدا أعطينه * نظر المحب إلى الحبيب المقبل ما ان يعاف قذى ولو أوردته * يوما خلائق حمدويه الأحول وكان حمدويه هذا عدوا للذي مدحه. فحدثني عبد الله بن الحسين وقد اجتمعنا بقرقيسياء قال قلت للبحتري انك احتذيت في شعرك - يعني الذي ذكرناه - أبا تمام وعملت كما عمل من المعنى وقد عاب هذا عليك قوم فقال لي أيعاب علي أن أتبع أبا تمام وما عملت بيتا قط حتى أخطر شعره ببالي ولكنني اسقط بيت الهجاء من شعري قال فكان بعد ذلك لا ينشده وهو ثابت في أكثر النسخ اه.
المفاضلة بين أبي تمام والبحتري.
من الطريف أن يكون أبو تمام والبحتري وكلاهما من طئ وفي عصر واحد متصافيين متآلفين والبحتري يعترف لأبي تمام بالفضل عليه والناس في عصرهما وبعده مختلفون فيهما ويتعصب لكل واحد فريق. فقد اختلف الناس في المفاضلة بينهما وصنف أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي كتابا في ذلك سماه الموازنة بين أبي تمام والبحتري وفهم منه الميل إلى تفضيل البحتري وصنف أبو الضياء بشر بن تميم الكاتب كتابا في سرقات البحتري من أبي تمام وظهر منه الميل إلى تفضيل أبي تمام حتى نسبه الآمدي في ذلك إلى الاسراف وأبو بكر الصولي صنف كتابا في اخبار أبي تمام ويظهر منه الميل إلى تفضيل أبي تمام، وأبو العلاء المعري يظهر منه تفضيل المتنبي عليهما حيث شرح دواوين الثلاثة فسمى شرح ديوان أبي تمام ذكرى حبيب وشرح ديوان البحتري عبث الوليد وشرح ديوان المتنبي معجز احمد وان صح ما يحكى عن المتنبي أنه قال عن نفسه وعن أبي تمام نحن حكيمان والشاعر البحتري فقد فضل البحتري على أبي تمام. وفي شذرات الذهب: قال اليافعي: قد رجح كثير من المتأخرين أو أكثرهم ثلاثة متأخرين أبا تمام والبحتري والمتنبي واختلفوا في ترجيح أيهم ورجح الفقيه حسين المؤرخ قول شرف الدين بن خلكان - يعني من ترجيحهما على المتنبي - وذلك لأن الأولين سبقوا إلى ابتكار المعاني الجزلة بالألفاظ البليغة وأحسن حالات المتأخرين ان يفهموا أغراضهم وينسجوا على منوالهم وتبقى لهم فضيلة السبق (اه) وما ابعد اليافعي وابن خلكان القاضي وحسينا الفقيه عن معرفة الحكم بين فحول الشعراء أمثال هؤلاء الثلاثة على أن هذا الكلام الذي حكي عن ابن خلكان لا يرجع إلى محصل فإن كان المتقدم ابتكر معاني جزلة بألفاظ بليغة فقد شاركه المتأخر في مثل ذلك أو زاد عليه والمعاني الجزلة والألفاظ البليغة ليست وقفا على أحد وقد يأخذ المتأخر معنى من المتقدم فينصرف فيه ويزيد عليه فيكون أحق به واما ان أحسن حالات المتأخرين أن يفهموا أغراض المتقدمين فهو ظلم للمتأخرين وكلام من لا يعرف قدر الناس وأما المنوال فلكل منوال ينسج عليه وليس على أحد أن ينسج على منوال أحد بل قد ينسج على منواله ويكون نسجه أقوى من نسجه وقد ينسج على منوال يخترعه ويفوق فيه والذي ينبغي أن يقال إن شعر أبي تمام أقوى وأمتن وأقرب إلى نفس العرب الأول وشعر البحتري أقرب إلى نفس المتأخرين وغزله أرق من غزل أبي تمام وشعر أبي تمام في مجموعه يفضل شعر البحتري. وفي أخبار أبي تمام للصولي حدثني أبو العباس عبد الله بن المعتز قال جاءني محمد بن يزيد المبرد يوما فأفضنا في ذكر أبي تمام وسألته عنه وعن البحتري فقال لأبي تمام استخراجات لطيفة ومعان طريفة لا يقول مثلها البحتري وهو صحيح الخاطر حسن الانتزاع وشعر البحتري أحسن استواء وأبو تمام يقول النادر والبارد وهو المذهب الذي كان أعجب إلى الأصمعي وما أشبه أبا تمام الا بغائص يخرج الدر والمخشلبة (3) ثم قال والله ان لأبي تمام والبحتري من المحاسن ما لو قيس بأكثر شعر الأوائل ما وجد فيه مثله. قال أبو بكر - الصولي - وقول أبي العباس المبرد: ما أشبهه الا بغائص فإنما أخذه من قول الأصمعي في النابغة الجعدي: تجد في شعره مطرفا بآلاف وكساء بواف - أي بدرهم واف والدرهم الوافي درهم وأربعة دوانيق - (أقول) ولكنه غائص لا يخرج في أكثر أوقاته إلا الدر وانما يخرج المخشلبة نادرا. وفي مروج الذهب ان عبد الله بن الحسن بن سعدان قال سألت المبرد عن أبي تمام والبحتري أيهما أشعر قال لأبي تمام استخراجات لطيفة ومعان ظريفة وجيده أجود من شعر البحتري ومن شعر من تقدمه من المحدثين وشعر البحتري أحسن استواء من أبي تمام لأن البحتري يقول القصيدة كلها فتكون سليمة من طعن طاعن أو عيب عائب وأبو تمام يقول البيت النادر ويتبعه البيت السخيف وما أشبهه إلا بغائص البحر يخرج الدر والمخشلبة في نظام وإنما يؤتى هو وكثير من الشعراء من البخل بأشعارهم وإلا فلو اسقط من شعره على كثرة عدده ما انكر منه لكان أشعر نظرائه فدعاني هذا القول منه إلى أن قرأت عليه شعر أبي تمام وأسقطت خواطئه وكل ما ذم من شعره وأفردت جيده ووجدت ما يتمثل به ويجري على السنة العامة وكثير من الخاصة مائة وخمسين بيتا ولا أعرف شاعرا جاهليا ولا اسلاميا يتمثل له بهذا المقدار من الشعر (اه) وفي أخبار أبي تمام للصولي قال كنا عند أبي علي الحسين بن فهم فجرى ذكر أبي تمام فقال رجل أيما أشعر البحتري أو أبو تمام فقال سمعت بعض العلماء بالشعر ولم يسمه قد سئل عن مثل هذا فقال وكيف يقاس البحتري بأبي تمام وهو به وكلامه منه وليس أبو تمام بالبحتري ولا يلتفت إلى كلامه (اه).
رأي البحتري في نفسه وفي أبي تمام قد اعترف البحتري بتقدم أبي تمام عليه فيما ذكره الصولي في أخبار أبي تمام قال سمعت أبا محمد عبد الله بن الحسين بن سعد يقول للبحتري وقد