وقال ابن المعتز فيه ومن الطباق قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع. وقال زهير.
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا * ما كذب الليث عن أقرانه صدقا (عثر) مأسدة (وكذب) بمعنى أحجم فطابق بين الصدق والكذب وقال طفيل الغنوي:
بساهم الوجه لم تقطع أباجله * يصان وهو ليوم الروع مبذول (الأباجل) جمع أبجل اسم عرق وهو من الفرس والبعير بمنزلة الأكحل من الإنسان، فطابق بين يصان ومبذول. قال الآمدي: فتتبع مسلم بن الوليد هذه الأنواع واعتدها ووشح شعره بها و وضعها في موضعها، ثم لم يسلم مع ذلك من الطعن حتى قيل إنه أول من أفسد الشعر روى ذلك أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح قال ابن الجراح وحدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال سمعت أبي يقول أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم اتبعه أبو تمام واستحسن مذهبه وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف، فسلك طريقا وعرا واستكره الألفاظ والمعاني ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه. وحكى عبد الله بن المعتز في كتابه الذي لقبه البديع أن بشارا وأبا نواس ومسلم بن الوليد ومن تقيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف من زمانهم، ثم إن الطائي تفرع فيه وأكثر منه وأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقبى الافراط، وإنما كان الشاعر يقول من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قرئ في شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت واحد بديع، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى عفوا، وقد كان بعضهم يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال ويقول لو كان صالح نثر أمثاله في تضاعيف شعره وجعل منها فصولا في أبياته لسبق أهل زمانه. قال ابن المعتز وهذا أعدل كلام سمعته، وحكى الآمدي في الموازنة عن أبي عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتاب الورقة عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن حذيفة بن أحمد أن أبا تمام يريد البديع فيخرج إلى المحال، قال: وهذا نحو ما قاله أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتابه الذي ذكر فيه البديع، وكذلك ما رواه محمد بن داود عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن أبيه أن أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد وأن أبا تمام تبعه فسلك في البديع مذهبه فتحير فيه كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات وتوشيح شعره بها حتى صار كثير مما اتى به من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكد وطول التأمل ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء ولم يوغل فيها ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذبة ويقسرها مكارهة وتناول ما يسمح به خاطره غير متعب ولا مكدود وأورد من الاستعارات ما قرب وحسن واقتصر من القول على ما كان محذوا حذو الشعراء المحسنين ليسلم من هذه الأشياء التي تهجن الشعر وتذهب ماءه ورونقه، ولعل ذلك أن يكون ثلث شعره أو أكثر منه، لظننته كان يتقدم عند أهل العلم بالشعر على أكثر الشعراء المتأخرين وكان قليله حينئذ يقوم مقام كثير غيره لما فيه من لطيف المعاني ومستغرب الألفاظ، لكنه شره إلى كل ما جاش به خاطره فخلط الجيد بالردئ والعين النادر بالرذل الساقط والصواب بالخطأ (اه) (وأقول) لا شك أن أبا تمام أكثر في شعره من ذكر الاستعارات والتجنيس وكأنه كان يتعمد ذلك ويعانيه ولا يقتصر على ما يجئ عفو الطبع. وأنواع البديع والاستعارة وإن كانت من محسنات الكلام إلا أنها إذا كانت متكلفة قد تورث الكلام قبحا لا حسنا، ولهذا رأينا قصائد أصحاب البديعيات التي نظموها على وزن البردة وقافيتها جلها ينبو عنه السمع ويبعد عن البلاغة لما أن تكلف أصحابها أنواع البديع وذكر أسمائها تكلفا، وشعر أبي تمام لما كان فيه كثير من الاستعارات والتجنيس وغيره أتى به تعمدا وتكلفه تكلفا، فقد يجئ منه ما لا يكون مستحسنا. ويكون السمع والطبع عنه نابيا ولا شك أنه لو ترك تكلف ذلك واقتصر على ما يأتي عفو الطبع لزاد شعره حسنا ورونقا، ولكننا مع ذلك نرى ان من عابه بهذا قد أفرط في التشنيع ولم يقتصد فجل تلك الاستعارات وأكثر ذلك التجنيس جيد مستحسن وإن وقع منها ما هو بخلاف ذلك فهو قليل لا يكاد يخلو عنه شعر شاعر ولو سلم انه أكثر مما في شعر غيره فهو لم يبلغ الدرجة التي عابوه بها. وحيث انساق الكلام إلى أنواع البديع وعيب الناس لأبي تمام بإكثاره منها، فلنذكر كثيرا مما وقع في شعره. منها:
1 - حسن المطلع ويسمى أيضا (براعة المطلع) و (براعة الاستهلال) و (حسن الابتداء) وهو أن يتأنق المتكلم في أول كلامه ويأتي بأعذب الألفاظ وأجزلها وأرقها وأسلسها وأحسنها نظما وسبكا وأصحها مبنى وأوضحها معنى وأخلاها من الحشو والركة والتعقيد والتقديم والتأخير والذي لا يناسب وهو من أنواع البديع. والمطلع للقصيدة بمنزلة الوجه للانسان، فإنه أول ما يستقبل الإنسان من القصيدة، فينبغي للشاعر أن يجتهد في تحسين المطلع، لأنه أول ما يقرع الأذن ويصافح الذهن، فإن كان حسنا أقبل السامع على الكلام فوعى جميعه، وإن كان على الضد من ذلك مجه السمع ونبت عنه النفس، إن كان الباقي في غاية الحسن. ولأبي تمام في قصائده مطالع بارعة، وقد يجئ نادرا بمطالع باردة. فمن مطالعه البارعة قوله يا موضع الشدنية الوجناء * ومصارع الادلاج والإسراء وقوله هتكت يد الأحزان شر عزائي * هتك الصباح دجنة الظلماء وقوله:
السيف أصدق أنباء من الكتب * في حده الحد بين الجد واللعب قال الآمدي: هو أحسن ابتداءاته. وقوله:
من سجايا الطلول أن لا تجيبا * فصواب من مقلتي أن تصوبا وقوله:
على مثلها من أربع وملاعب * أذيلت مصونات الدموع السواكب وقوله:
أأيامنا ما كنت إلا مواهبا * وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا وقوله: ديمة سمحة القياد سكوب * مستغيث بها الثرى المكروب وقوله:
نسائلها أي المواطن حلت * وأي بلاد أوطنتها وأية