وعيش العالمين لديك سهل * وعيشي وحده بفناك صعب وأنت أنت دافع كل خطب * مع الخطب الملم علي خطب ويقول في أبياته التي أرسلها لغلاميه منصور وصاف من الأسر مخاطبا سيف الدولة:
بلى ان لي سيدا * مواهبه أكثر بذنبي أوردتني * ومن فضلك المصدر فقد اعترف بذنب له اليه جازاه به وكتب اليه من الأسر أبياتا أولها:
جنى جان وأنت عليه جان * وعاد فعدت بالكرم الغزير وآخرها:
ومثل أبي فراس من تجافى * له عن فعله مثل الأمير فما هو الذنب وما هي هذه الجناية؟ ليس في يدنا من التواريخ ما يفصلها ولا ما يدل على ذنب وجناية له غير قوله: مفاداتي ان تعذرت عليك فائذن لي في مكاتبة أهل خراسان ليفادوني ان صح ان يسمى ذلك ذنبا وجناية.
ومما يلفت النظر ان سيف الدولة كتب اليه يعتذر من تأخير امره وبتشوقه وكأنه أراد أن يحفظ خط الرجعة فيؤخر فداءه ويعتذر اليه ولكن هذا العذر بظاهر الحال غير مقبول فما كان سيف الدولة عاجزا عن تقديم فدائه واي عذر له في تأخير امره ولذلك لم يقبل أبو فراس هذا العذر وكتب اليه:
بالكره مني واختيارك * ان لا أكون خليف دارك يا تاركي اني لشكرك * ما حييت لغير تارك كن كيف شئت فإنني * ذاك المواسي والمشارك والذي يغلب على الظن ان تأخير سيف الدولة مفاداة أبي فراس كان لامر سياسي خطير هان معه أمر تأخير فدائه مع كونه من أهم المهمات ولكن أبا فراس لضيق صدره من الأسر وطول مدته فيه كان يلح على سيف الدولة في مفاداته وينسبه إلى التهاون في ذلك فان الحالة التي كان فيها أبو فراس في اسره لا يمتنع معها ان يصدر منه العتب واللوم لسيف الدولة ويظن ان ذلك لذنب نسبه سيف الدولة اليه مع كون سيف الدولة معذورا في امره وربما دل على ذلك ما مر عن ابن خالويه ان سيف الدولة امتنع من اخراج ابن أخت الملك الا بفداء عام وحمل أبو فراس إلى القسطنطينية فقال قصيدة يعاتب بها سيف الدولة. فهذا يدل على أن تأخير الفداء كان لطلب فداء عام نجهل تفصيله. كما نجهل تفصيل هذه الأمور من جميع نواحيها.
ويدل على ما قلناه ما في معجم البلدان من أن سيف الدولة جمع في سنة 355 الأموال وفدى اسرى المسلمين من الروم وكان فيهم أبو فراس بن حمدان وغيره من أهله وأبى ان يفديهم ويترك غيرهم من المسلمين اه. لكن الأمر الذي لا يخلو من استغراب ان سيف الدولة مات بعد خلاص أبي فراس من الأسر بسنة فلم يرثه أبو فراس ولو رثاه لوجد ذلك في ديوانه فهل يا ترى بقي اثر هذه الوحشة في نفس الأميرين أو أحدهما.
اخباره في الأسر قال ابن خلكان قال ابن الحسن علي بن الزراد الديلمي: كانت الروم قد أسرت أبا فراس في بعض وقائعها وهو جريح قد أصابه سهم بقي نصله في فخذه ونقلته إلى خرشنة بلدة بالروم على الساحل ثم منها إلى قسطنطينية وذلك في سنة 348 وفداه سيف الدولة في سنة 355 قال ابن خلكان قلت هكذا قال وقد نسبوه في ذلك إلى الغلط وقالوا أسر أبو فراس مرتين فالمرة الأولى بمغارة الكحل سنة 348 وما تعدوا به خرشنة وهي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها وفيها يقال إنه ركب فرسه وركضه برجله فاهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات والله أعلم والمرة الثانية اسره الروم على منبج في شوال سنة 351 وحملوه إلى قسطنطينية واقام في الأسر أربع سنين وله في الأسر أشعار كثيرة اه. وقال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة 351 فيها في شوال أسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان من منبج وكان متقلدا لها وقال في حوادث سنة 355 فيها تم الفداء بين سيف الدولة والروم وتسلم سيف الدولة ابن عمه أبا فراس بن حمدان وأبا الهيثم ابن القاضي أبي الحصين اه. فيكون أبو فراس أقام في الأسر في المرة الثانية أربع سنين اما في المرة الأولى فلم تطل مدته وتخلص من خرشنة. ويدل شعره الذي ارسله إلى سيف الدولة أول ما أسر انه لقي الروم وهم ألف بسبعين من أصحابه لا يرتضيهم فاسر ويدل شعره في تلك القصيدة وغيرها على أنه كان يمكنه الهرب أو الانحياز عن الروم فلم يفعل كما مر تفصيله عند ذكر شخصيته، وبذلك صرح ابن خالويه فقال خرج بردس البطريق وهو ابن أخت الملك في ألف فارس من الروم إلى نواحي منبج وكانت اقطاعا لأبي فراس فصادف الأمير أبا فراس يتصيد في سبعين فارسا فاراده أصحابه على الهزيمة فأبى وثبت حتى أثخن بالجراح فاسر اه.
اشتد على أبي فراس ألمه من الأسر وضاقت به نفسه وحزن لذلك فكانت دموعه تلك القوافي الخالدة التي تبكي المنشد وتشجي السامع والتي هي غرة في جبين الشعر وقلادة في جيد الدهر. ومن الطبيعي ان يعرض مثل ذلك لمثله فبينما هو أمير إذا هو أسير وبينما هو حاكم إذا به محكوم عليه وزاد صدره حراجة ان البطارقة قيدوا بميافراقين فقيد هو بخرشنة وهو يسار به إلى القسطنطينية أسيرا وكيف يطيق الليث ان يصفد ويحتمل ان يحبس ويذل ويمتهن فلا بد له من أن يزأر ان لم يستطع الفتك بخصمه ولعمري ليست نفس الأسد بأكبر من نفس أبي فراس ولا شمم الليث وآباؤه بأعظم من شمم الحارث وآبائه وأبو فراس الحارث هو الليث أفعالا ونفسا واسما وكنية وطال بأبي فراس أساره واعتل في أثناء ذلك حتى يئس من نفسه وإذا كان في مثل هذه الحال فبمن يستنجد وممن يطلب الفداء وتفريج الكرب ليس الا من أمير أسرته ومن يمت اليه بالقرابة القريبة وبالنصرة في الحروب والمواساة في السراء والضراء وهو ابن عمه سيف الدولة أمير بني حمدان فيكتب اليه أول ما أسر بقوله:
دعوتك للجفن القريح المسهد * لدي وللنوم القليل المشرد ثم لا يلبث ان يستدرك بعد هذا البيت بلا فاصل فيبين ان ذلك ليس لحب الحياة وخوف الموت بل ذلك لامر يعود إلى عزة النفس فيقول:
وما ذاك بخلا بالحياة وانها * لأول مبذول لأول مجتدي ولكنني اختار موت بني أبي * على صهوات الخيل غير موسد