صاغهم ذو الجلال من جوهر المجد * وصاع الأنام من عرضه سهم من الملك لا يضيعه * باريه حتى يهتز في غرضه قال الصولي وهذه من أحسن كناية في التقريض بالخلافة صحته صحة الرجاء لنا * في حين ملتاثه ومنتقضه فان يجد علة نعم بها * حتى كأنا نعاد من مرضه فقال له أحمد بن المعتصم: ما أبين العلة عليك فقال إنها علة قلب تميت الخاطر وتسد الناظر وتبلد الماهر (اه) وهذا الجواب من أحسن الأجوبة.
اخباره مع أبي جعفر محمد بن عبد الملك بن أبي مروان الزيات وزير المعتصم وكان ابن الزيات في أول أمره من جملة الكتاب في خلافة المعتصم فورد على المعتصم كتاب فيه ذكر الكلأ فسأل الوزير عنه فلم يعرفه فسأل ابن الزيات عنه فقال الكلأ العشب على الاطلاق فإن كان رطبا فكذا وإذا يبس فكذا فاستوزره المعتصم ثم استوزره الواثق ثم استوزره المتوكل فبقي أربعين يوما ثم قتله واستصفى أمواله قال ابن خلكان: ذكر الصولي أن أبا تمام لما مدح محمد بن عبد الملك الزيات الوزير بقصيدته التي منها قوله:
ديمة سمحة القياد سكوب * مستغيث بها الثرى المكروب لو سعت بقعة لاعظام نعمى * لسعى نحوها المكان الجديب قال له ابن الزيات يا أبا تمام انك لتحلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسنا على بهي الجواهر في أجياد الكواعب وما يدخر لك شئ من جزيل المكافاة إلا ويقصر عن شعرك في الموازاة وكان بحضرته فيلسوف فقال له إن هذا الفتى يموت شابا فقيل له ومن أين حكمت عليه بذلك فقال رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لظافة الحسن وجودة الخاطر ما علمت به ان النفس الروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده وكذا كان لأنه مات وقد نيف على ثلاثين سنة قال ابن خلكان وهذا يخالف تاريخ مولده ووفاته (اه) قلت لا مخالفة وذلك أنه ولد على الأكثر سنة 192 وتوفي على الأقل سنة 228 فيكون عمره ستا وثلاثين سنة ولكن يخشى أن يكون خبر هذا الفيلسوف كخبر الفيلسوف المتقدم عند ذكر مدحه لأحمد بن المعتصم والله أعلم ويأتي أول القصيدة في الصفات وتمام القصيدة هو هذا.
أيها الغيث حي أهلا بمغداك * وعند السرى وحين تئوب لأبي جعفر خلائق يحكيهن * قد يشبه النجيب النجيب أنت فينا في ذا الأوان غريب * وهو فينا في كل وقت غريب فإذا الخطب طال نال الندى * والبذل منه ما لا تنال الخطوب خلق مشرق ورأي حسام * ووداد عذب وريح جنوب كل يوم له وكل أوان * خلق ضاحك ومال كئيب إن تقاربه أو تباعده ما لم * تأت فحشاء فهو منك قريب ما التقى وفره ونائله مذ * كان إلا وفره المغلوب فهو مدن للجود وهو بغيض * وهو مقص للمال وهو حبيب يأخذ المعتفين قسرا ولو كفف * دعاهم اليه واد خصيب غير أن الرامي المسدد يحتاط * مع العلم انه سيصيب وفي أخبار أبي تمام للصولي حدثني محمد بن موسى: سمعت الحسن بن وهب يقول: دخل أبو تمام على محمد بن عبد الملك - الزيات - فأنشده قصيدته التي أولها:
لهان علينا أن نقول وتفعلا * ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا فلما بلغ إلى قوله.
وجدناك أندى من رجال أناملا * وأحسن في الحاجات وجها وأجملا تضئ إذا اسود الزمان وبعضهم * يرى الموت ان ينهل أو يتهللا ووالله ما آتيك إلا فريضة * وآتي جميع الناس إلا تنفلا وليس امرؤ في الناس كنت سلاحه * عشية يلقى الحادثات بأعزلا فقال له محمد والله ما أحب بمدحك مدح غيرك لتجويدك وابداعك ولكنك تنغص مدحك ببذله لغير مستحقه فقال لسان الغدر معقول وإن كان فصيحا ومر في القصيدة فأمر له بخمسة آلاف درهم وكتب إلى أبي تمام بعد ذلك.
رأيتك سمح البيع سهلا وإنما * يغالي إذا ما ضن بالبيع بائعه فاما الذي (إذا) هانت بضائع ماله (بيعه) * فيوشك ان تبقى عليه بضائعه هو المال إن أجمحته طاب ورده * ويفسد منه إن تباح شرائعه وروى أبو الفرج في الأغاني هذا الخبر في ترجمة محمد عن الصولي ثم قال بعد ذكر ابيات محمد فأجابه أبو تمام وقال.
أبا جعفر ان كنت أصبحت شاعرا * أسامح (أساهل) في بيعي له من أبايعه فقد كنت قبلي شاعرا تاجرا به (1) * تساهل من عادت (2) عليك منافعه فصرت وزيرا والوزارة مكرع (3) * يغص به بعد اللذاذة كارعه وكم من وزير قد رأينا مسلط * فعاد وقد سدت عليه مطالعه ولله قوس لا تطيش سهامها * ولله سيف لا تفل مقاطعه وقال أبو تمام يمدح ابن الزيات بقصيدة هي من عيون الشعر وغرره ومن مختارها قوله.
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل * وقلبك منها مدة الدهر آهل ليالي أضللت العزاء وخذلت * بعقلك أرام الخدور العقائل من الهيف لو أن الخلاخل صيرت * لها وشحا جالت عليها الخلاخل مها الوحش الا ان هاتا أوانس * قنا الخط إلا أن تلك ذوابل هوى كان خلسا إن من أحسن الهوى * هوى جلت في افيائه وهو خامل أبا جعفر لذ الجهالة أمها * ولود وأم العلم جداء حائل وأنت شهاب في الملمات ثاقب * وسيف إذا ما هزك الحق فاصل من البيض لم تنض الأكف كنصله * ولا حملت مثلا اليه الحمائل ثم قال مشيرا إلى الملك.
جمعت عرى أعماله بعد فرقة * إليك كما ضم الأنابيب عامل ثم ذكر أبياتا في وصف القلم تأتي في الصفات وهي من أحسن ما وصف به ثم قال:
أرى ابن أبي مروان اما عطاؤه * فطام واما حكمه فهو عادل هو المرء لا الشورى استبدت برأيه * ولا قبضت من راحتيه العواذل