وقال عبد الصمد وهو محسن عند من يطعن على أبي تمام وغيرهم:
أي ماء لماء وجهك يبقى * بعد ذل الهوى وذل السؤال فصير لماء الوجه ماء. وقالوا ماء الشباب قال أبو العتاهية:
ظبي عليه من الملاحة حلة * ماء الشباب يجول في وجناته وهو من قول ابن أبي ربيعة:
وهي مكنونة تحير منها * في أديم الخدين ماء الشباب وقال أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل:
أهيف ماء الشباب يرعد في * خديه لولا أديمه قطرا فما يكون إن استعار أبو تمام من هذا كله حرفا فجاء به في صدر بيته لما قال في آخره (فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي) قال في أوله (لا تسقني ماء الملام). وقد تحمل العرب اللفظ على اللفظ فيما لا يستوي معناه، قال الله عز وجل (وجزاء سيئة سيئة مثلها) والسيئة الثانية ليس بسيئة لأنها مجازاة ولكنه لما قال وجزاء سيئة قال سيئة فحمل اللفظ على اللفظ، وكذلك (ومكروا ومكر الله) وكذلك (فبشرهم بعذاب أليم) لما قال بشر هؤلاء بالجنة قال بشر هؤلاء بالعذاب، والبشارة إنما تكون في الخير لا في الشر، فحمل اللفظ على اللفظ، وقال الله عز وجل (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) فهذا أجل استعارة وأحسنها، وكلام العرب جار عليها. قال العتابي:
أكاتم لوعات الهوى ويبينها * تخلل ماء الشوق بين جفوني وقال أبو نواس:
لما ندبتك للجزيل أجبتني * لبيك واستعذبت ماء كلامي (أقول في جميع ما أجاب به نظر إلا الوجه الأخير فهو الصواب، وهو أن العرب تحمل اللفظ على اللفظ فيما لا يستوي معناه. أما قولهم كلام كثير الماء وقول أبي نواس (واستعذبت ماء كلامي) فهو لا يشبه قوله ماء الملام، لأنهم شبهوا الكلام الرقيق السلس البليغ بثمرة يانعة أو غصن رطب، فاستعاروا له كثرة الماء، كما شبهوا الكلام الذي بضد ذلك بالعود اليابس فقالوا: هذا كلام جاف، وكذلك قول يونس: ما أكثر ماء شعر الأخطل، وأما قولهم ماء الصبابة وماء الهوى وماء الشوق يريدون به الدمع فلا يشبه أيضا قوله ماء الملام، لأن شبه الدمع بالماء ظاهر بين بخلاف الملام. وأما ماء الوجه فإنهم شبهوا وجه من يستحي بشئ عليه ماء فهو لين قابل للانفعال ووجه من لا يستحي بصخر صلب، فحسن لذلك أن يقال ماء الوجه. وأما ماء الوجه فزيادة في المبالغة وهذا لا يشبهه ماء الملام حتى يقال ماء الملام. وأما ماء الشباب فإنه شبه الشباب بالغصن الرطب والأرض الخضراء بالعشب، فاستعير له الماء ولا يشبهه ماء الملام، وكذلك جناح الذل لا يشبه ماء الملام فإنه شبه (والله أعلم) راحم أبويه بالطائر الذي يخفض جناحيه لأفراخه فيحضنها فاستعير له الجناح. ويقال إن مخلدا الموصلي بعث اليه بقارورة يسأله ان يبعث له فيها قليلا من ماء الملام فقال للرسول قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه (اه).
4 - قال الصولي في أخبار أبي تمام: ومن أعجب العجب وأفظع المنكر أن قوما عابوا قوله:
كأن بني نبهان يوم وفاته * نجوم سماء خر من بينها البدر فقالوا أراد أن يمدحه فهجاه كان أهله كانوا خاملين بحياته فلما مات أضاؤوا بموته، وقالوا كان يجب أن يقول كما قال الخريمي:
إذا قمر منهم تغور أو خبا * بدا قمر في جانب الأفق يلمع قال: ولا اعرف لمن صح عقله ونفذ في علم من العلوم خاطره عذرا في مثل هذا القول ولا أعذر من يسمعه فلا يرده عليه اللهم إلا أن يكون يريد عيبه والطعن عليه. ثم قال وما ظننت أن أحدا يتعلق بقليل الأدب يجهل هذا الذي عابوه على أبي تمام، ولا أن الله عز وجل يحوجني إلى تفسير مثله أبدا، وقد قالت الحكماء لو سكت من لا يدري استراح الناس وقالوا بكثرة لا أدري يقل الخطأ. يروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أن رجلا ذكر له بعض أهل الفضل، فقال له صدقت ولكن السراج لا يضئ بالنهار. فلم يرد رضوان الله عليه أن ضوء السراج ليس حالا فيه ولا أنه زالت عنه ذاته، ولكنه بالإضافة إلى ضوء النهار لا يضئ، ولم يطعن على ضوء النهار ولا على السراج ولكنه قال فاضل وأفضل منه. وقال الشاعر وأحسن:
وكن جواري الحي إذ كنت فيهم * قباحا فلما غبت صرن ملاحا وما أراد إلا تفضيلها ولم يطعن على أحد، والقباح لا يصرن ملاحا في لحظة، ولكنه أراد أنهن ملاح وهي أملح منهن فإذا اجتمعن كن دونها.
فأراد أبو تمام تفضيله عليهم وإن كانوا أفاضل وليس ضياء البدر يذهب بالكواكب جملة، ولكن المستضئ به أبصر من المستضئ بالكواكب، فإذا فقد البدر استضاء بها وهي دونه، فكان أبا تمام قال إن ذهب البدر منهم فقد بقيت فيهم كواكب وقال النابغة يخاطب النعمان:
بأنك شمس والملوك كواكب * إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقد سبق النابغة إلى هذا شعراء كندة فقال أحدهم يمدح عمرو بن هند ن كلمة:
هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت * على كل ضوء والملوك كواكب وقال النجاشي:
نعم الفتى أنت إلا أن بينكما * كما تفاضل ضوء الشمس والقمر وقال صفية الباهلية:
كنا كأنجم ليل بينها قمر * يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر فهذا كلام أبي تمام ومعناه بعينه، وقال جرير يرثي الوليد بن عبد الملك.
أمسى بنوه وقد جلت مصيبتهم * مثل النجوم هوى من بينها القمر أفترى جريرا أراد ان يهجو الوليد أو يقول إن بنيه زادوا ظهورا بموته.
وقال نصيب فأخذ معنى قول النابغة بعينه:
هو البدر والناس الكواكب حوله * وهل تشبه البدر المضئ الكواكب أما قولهم هلا قال كما قال الخريمي؟ فالمعنى الذي أراده أبو تمام ليس ما أراد الخريمي لأن أبا تمام قصد التفضيل في السؤدد والخريمي أراد التسوية فيه، فأبو تمام يريد بقوله مات سيد وقام سيد دونه والخريمي يريد مات سيد وقام سيد مثله. فكيف يستحسن قوم ذهب هذا عليهم ان ينطقوا في الشعر بحرف لم يفهموه، على أنهم أعذر عندي ممن يسمع منهم ويحكي قولهم، وإنما احتذى الخريمي قول أوس بن حجر: