شعره على رجليه ولم يرض أن يسمع باقي القصيدة إلا وهو قائم، ويأتي في أخبار أبي تمام أن علي بن الجهم، ودعبلا وأبا الشيص وابن أبي فنن وهم من مشاهير شعراء ذلك العصر لما سمعوا شعره ولم يكونوا سمعوه قبل اعترفوا بفضله وهو لا يزال شابا في أول امره حتى صار معهم في موضعهم ولم يزالوا يتهادونه بينهم وجعلوه كأحدهم واشتد إعجابهم به لجودة شعره، وعقد أبو الشيص خنصره لما سمع شعره إشارة إلى أنه مما تعقد عليه الخناصر، وان أبا العباس محمد بن يزيد المبرد النحوي و - مرتبته في العلم والأدب ومعرفة الشعر معلومة - كان يستحسن شعره ويستعيده مرارا حتى يحفظه. ويأتي أيضا في اخباره مع ابن المدبر الذي كان يعاديه قول ابن المدبر في أرجوزة أبي تمام قبل ان يعرف أنها له: ما سمعت بأحسن منها.
وأن ابن المعتز - ومحله في الشعر والأدب محله - كان يقدم أبا تمام ويفضله وأنه رد على ابن المدبر الذي كان يتعصب عليه فألقمه حجرا. وقول ابن المعتز: إن أشعار أبي تمام ترتاح لها القلوب وتحرك بها النفوس وتصغى إليها الأسماع وتشحذ بها الأذهان ويعلم كل من له قريحة وفضل ومعرفة أن قائلها قد بلغ في الإجادة أبعد غاية وأقصى نهاية. وأن شعراء خراسان لما أنشد عبد الله بن طاهر مدحه فيه صاحوا: ما يستحق مثل هذا الشعر غير الأمير وأن الرياحي منهم جعل جائزته لأبي تمام، وأن أبا تمام لعلمه بما له من المكانة استقل ألف دينار نثرها عليه عبد الله بن طاهر فلم يمس منها شيئا حتى التقطها الغلمان، وأوجب ذلك سخط عبد الله بن طاهر عليه، وأن أبا دلف العجلي لما أنشده بعض مدايحه فيه قال يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط وأجازه بخمسين ألف درهم واعتذر منه وقال:
إنها دون استحقاقه وقدره وهي تبلغ خمسة آلاف دينار، فيحق له أن يستقل جائزة ألف دينار من عبد الله بن طاهر أمير خراسان الذي لا يصل إلى درجته أبو دلف. ويتمنى أبو دلف أن تكون أبيات أبي تمام في رثاء محمد بن حميد في رثائه هو ويقول: إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر أو مثله. وهذه غاية ما فوقها غاية في مدح أبي دلف شعر أبي تمام واستحسانه. ومن شدة الاستحسان لهذه الأبيات قال يحيى بن زيد العلوي كأنها ما قيلت الا في الحسين بن علي عليهما السلام. وأن محمد بن الهيثم بن شباية لما مدحه أبو تمام قال ومن لا يعطي على هذا ملكه وأعطاه كل ثوب في داره بعدما أجازه بألف دينار وخلع عليه وأن أبا العميثل عبد الله بن خليد كاتب عبد الله بن طاهر وكاتب أبيه طاهر من قبله وشاعر آل طاهر المنقطع إليهم العارف باللغة والشعر والشاعر المجيد وصفه عند عبد الله بن طاهر - كما يأتي في أخباره مع آل طاهر - بالنباهة في قدره والاحسان في شعره والشيوع في ذكره. وأن محمد بن حازم الباهلي الشاعر المطبوع كان يقدمه في الشعر والعلم والفصاحة ويقول: ما سمعت لمتقدم ولا محدث بمثل رثائه وغزله.
وأنه كان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده وعرض عليه شعره. وأن الحسن بن وهب كان يحفظ أكثر شعره، ولم يكن في نفسه أحد أجل منه.
وأن محمد بن خالد الشيباني قال: ما رأيت أحسن بيانا منه ولا أفصح لسانا. وأن أبا توبة الشيباني لما سمع شعره قال: ما سمعت مثل قوله وطربت فرحا أن يكون من ربيعة، وأنه تأسف لما علم أنه طائي أن لا يكون ربعيا أو نزاريا، وأنه استقل في جائزته من خالد بن يزيد عشرة آلاف درهم وحلف أنه ما كافأه. وأن الكاتب النعماني قال للمبرد: ضع في نفسك من شئت من الشعراء ثم انظر أيحسن أن يقول ما قاله أبو تمام في الاعتذار. وأن المبرد قال: ما سمعت أحسن من هذا قط، وما مات إلا وهو مقر بفضل أبي تمام وإحسانه. وان إسحاق بن إبراهيم المصعبي ما كان أحد أشغف بشعر أبي تمام منه، وكان يعطيه عطاء كثيرا. وان إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال لأبي تمام: أنت شاعر مجيد محسن كثير الاتكاء على نفسك. وان الواثق قال لوزيره ابن الزيات لما مات أبو تمام: قد غمني موت الطائي الشاعر!. ولما ذا غمه موته ألا لأنه لا يجد مثله في جودة شعره. وكان الواثق بصيرا بالأدب كما يدل عليه خبره مع المازني. وكفاه أن يكون البحتري تلميذه وخريجه ومعترفا بتقدم أبي تمام عليه. وكذلك إبراهيم بن الفرج أعلم الناس بالشعر. وابن الرومي ففي أخبار أبي تمام للصولي: حدثني أبو الحسن الكاتب قال: كان إبراهيم بن الفرج البندنيجي الشاعر يجيئنا كثيرا وكان أعلم الناس بالشعر، ويجيئنا البحتري وعلي بن العباس الرومي وكانوا إذا ذكروا أبا تمام عظموه ورفعوا مقداره في الشعر حتى يقدموه على أكثر الشعراء، وكل يقر بأستاذيته وانه منه تعلم وقال هؤلاء اعلم أهل زمانهم بالشعر وأشعر من بقي وقال أبو الفرج في الأغاني وقد فضل أبا تمام من الرؤساء والكبراء والشعراء من لا يشق الطاعنون عليه غباره ولا يدركون وإن جدوا آثاره وما رأى الناس بعده إلى حيث انتهوا له في جده نظيرا ولا شكلا، ولولا أن الرواة قد أكثروا في الاحتجاج له وعليه وأكثر متعصبوه الشرح لجيد شعره، وأفرط معادوه في التسطير لرديئه لذكرت منه طرفا، ولكن قد اتى من ذلك ما لا مزيد عليه.
ثم روى عن عمه قال: حدثني أبي سمعت محمد بن عبد الملك الزيات يقول: أشعر الناس طرا الذي يقول: وما أبالي وخير القول أصدقه * حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي فأحببت إن استثبت إبراهيم بن العباس وكان في نفسي أعلم من محمد وآدب فجلست إليه وكنت أجري عنده مجرى الولد فقلت له من أشعر أهل زماننا هذا؟ قال الذي يقول:
مطر أبوك أبو أهلة وائل * ملأ البسيطة عدة وعديدا نسب كان عليه من شمس الضحى * نورا ومن فلق الصباح عمودا ورثوا الأبوة والحظوظ فأصبحوا * جمعوا جدودا في العلى وجدودا فاتفقا على أن أبا تمام أشعر أهل زمانه. وفي الأغاني: أخبرني محمد بن يحيى الصولي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا محمد بن يزيد النحوي - هو المبرد - أقول وهذا الخبر رواه الصولي عند ذكره ما جاء في تفضيل أبي تمام قال: حدثني محمد بن يزيد بن عبد الأكبر النحوي قال:
قدم عمارة بن عقيل (1) بغداد فاجتمع الناس إليه وكتبوا شعره وشعر أبيه وسمعوا منه وعرضوا عليه الأشعار فقال له بعضهم هاهنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طرا ويزعم غيرهم ضد ذلك! فقال أنشدوني قوله فأنشدوه:
غدت تستجير الدمع خوف نوى غد * وعاد قتادا عندها كل مرقد وأنقذها من غمرة الموت أنه * صدود فراق لا صدود تعمد فاجرى لها الاشفاق دمعا موردا * من الدم يجري فوق خد مورد هي البدر يغنيها تودد وجهها * إلى كل من لاقت وإن لم تودد