وأنشد العتبي:
فلو ان لحمي إذ وهي لعبت به * أسود كرام أو ضباع وأذؤب لهون من وجدي وسلى مصيبتي * ولكنما أودى بلحمي أكلب وقال الشاعر:
من ليس يدري ما يريد * فكيف يدري ما نريد إلى أن قال: وما يضر أبا تمام قول هؤلاء كما أنه لا يضر البحر ان يقذف فيه حجر ولا ينقص البدر أن تنبحه الكلاب وقد قال الشاعر:
ما يضر البحر أمسى زاخرا * أن رمى فيه غلام بحجر قال ولي من قصيدة:
ما عسى حاسد يقول إذا ما * خطب الناس بالحوادث خطب غيرهم يبثه من بعيد * مثل ما ينبح الكواكب كلب وفي أخبار أبي تمام للصولي: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال جاءني فضل اليزيدي بشعر أبي تمام فجعل يقرأه علي ويعجبني ممن جهل مقداره فقلت له الذين جهلوه كما قال:
لا يدهمنك من دهمائهم عدد * فان كلهم أو جلهم بقر وسيأتي قول المبرد ما يهضم هذا الرجل حقه إلا أحد رجلين: إما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام، وإما عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه وفي الموازنة للآمدي: أفرط المتعصبون لأبي تمام في تفضيله وقدموه على من هو فوقه من أجل جيده وسامحوه في رديئه وتجاوزوا له عن أخطائه وتأولوا له التأويل البعيد فيه، وقابل المنحرفون عنه إفراطهم فبخسوه حقه واطرحوا إحسانه ونعوا عليه سيئاته وقدموا عليه من هو دونه، وتجاوز ذلك بعضهم إلى القدح في الجيد من شعره وطعن فيما لا يطعن عليه واحتج بما لا تقوم به حجة ولم يقنع بذلك مذاكرة حتى ألف في ذلك كتابا وهو أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار القرطبلي المعروف بالفريد ثم ما علمته وضع يده من غلطه وخطائه إلا على أبيات يسيرة ولم يقم على ذلك الحجة ولم يتجاوز فيما نعاه عليه الأبيات التي تتضمن بعد الاستعارة وهجين اللفظ، وقد بينت خطأه فيما انكر من الصواب في جزء مفرد (اه) أقول لا شئ أدل على علو مرتبة أبي تمام وسمو منزلته في الشعر من كثرة العائبين له الذين حملهم الحسد على ذلك، ثم إن وجود البيت الضعيف أو أكثر في القصيدة ووجود الأبيات المعيبة في شعر الشاعر لا يقدح في شاعريته إذا كان مجيدا في سواها فهذا قلما يخلو منه شعر شاعر، كما أن صدور بيت جيد أو أبيات ممن هو ضعيف القوة في الشعر لا يجعله في مصاف الشعراء وإنما مثل ذلك مثل السيف الماضي والسيف الكهام، فالأول لا يضر بمضائه نبوة عن بعض الضرائب، والثاني لا ينفع فيه قطعه أحيانا واتفاقا. والبناء الحاذق في صنعة البناء القادر على إيجاد بناء متين متميز يكفي ذلك في عده في طليعة البنائين، ولا يقدح في ذلك أن بنى بيتا حقيرا أو أخطأ في بعض ما بناه، والدر والجوهر إذا خلط بالحصباء لا يخرج عن كونه درا وجوهرا.
نعم يعاب على الشاعر أن لا ينقي شعره من الأبيات الساقطة لأن ذلك يضر بالأبيات العالية عند السامعين ولكنه لا يقدح في شاعرية الشاعر فمن الشعراء من دأبه تهذيب شعره وتنقيته من الأبيات الساقطة، ومنهم من ينظم القصيدة فيدعها بدون أن يسقط منها ما لا يرتضى ويكون الداعي إلى ذلك إما رضاه عن نفسه وإعجابه بها فلا يرى الساقط من شعره ساقطا، وهذه كانت صفة المتنبي فيما يظن، وإما ألفه لشعر العرب وغريب كلامهم ووحشية، فان الغريب من كلامهم لم يكن غريبا عندهم وإنما صار غريبا عندنا، وهذه صفة أبي تمام فيما يرجح. وإما لما علل به أبو تمام فيما رواه، الصولي في أخبار أبي تمام قال حدثني علي بن إسماعيل حدثني علي بن العباس الرومي حدثني مثقال قال دخلت على أبي تمام وقد عمل شعرا لم أسمع أحسن منه وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها، فقلت له لو أسقطت هذا البيت؟ فضحك وقال: أتراك أعلم بهذا مني!... إنما مثل هذا مثل رجل له بنون جماعة كلهم أديب جميل متقدم وفيهم واحد قبيح متخلف، فهو يعرف أمره ويرى مكانه ولا يشتهي أن يموت ولهذه العلة وقع مثل هذا في أشعار الناس. ولا يظن بأبي تمام أنه كان يهمل تهذيب شعره فهو يقول:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى * والليل أسود رقعة الجلباب وقد كان زهير بن أبي سلمى - وهو من فحول الشعراء - يهذب القصيدة حولا كاملا حتى سميت قصائده الحوليات وضرب بها المثل، لكن ذلك لا يجعله أشعر من غيره من أمثاله من الشعراء الذين كانوا يرتجلون القصيدة ارتجالا، وقد يوجد في شعرهم ما لا يوجد في شعره من بيت ساقط أو أكثر. وكان إبراهيم بن العباس الصولي ينظم القصيدة ثم لا يزال يسقط منها ما لا يرتضيه حتى تبقى منها أبيات معدودة، ولكن ذلك لم يجعله في مصاف أبي تمام والبحتري وغيرهما الذين لم يكونوا يفعلون ذلك، ولا في مصاف المتنبي الذي قد يوجد في شعره من الأبيات الساقطة ما لا يوجد في شعر إبراهيم بن العباس الصولي. والحاصل ان القوة الشعرية هي التي يتفاضل بها الشعراء، فمن كانت قوته الشعرية أقوى ومادته أغزر كان المقدم، أما إذا صدر عن هذه القوة أحيانا ما لا يتناسب معها، فان ذلك لا يقدح في تفوقها على غيرها، كما أن قوة الفصاحة والبلاغة لا يقدح في تفوقها صدور كلام غير فصيح أو غير بليغ من صاحبها. ولسنا نريد أن نقول: إن صدور شعر ساقط من الشاعر ليس بمعيب، بل نقول إنه لا يضر بتفوقه في القوة الشعرية، ولكن الشعر الساقط معيب على ناظمه حيث لم يهذبه أو لم يسقطه، وهو قادر على ذلك. فأبو تمام الذي له من المطالع البديعة ما لا يحصى، كما ستعرف، لا يضر بشاعريته أن يقول في مطلع بعض قصائده:
قدك اتئب أربيت في الغلواء * كم تعذلون وأنتم سجرائي وهو يقول في هذه القصيدة في وصف الخمرة:
يخفي الزجاجة لونها فكأنها * في الكف قائمة بغير إناء وأبيات القصيدة الباقية كلها أو جلها غرر. على أنه قد يكون ما نراه في هذا المطلع من غرابة ألفاظه لا يراه أبو تمام كذلك لالفه بنفس العرب الأول وطريقتهم، كما بيناه في موضع آخر. وهذا المتنبي - مع اتفاق الناس على تقدمه في صناعة الشعر - له أبيات يستحي صبيان المكاتب من نسبتها إليهم، كما مر في ترجمته، ولم يقدح ذلك في شاعريته وتقدمه، وإن كان صدور مثل تلك الأبيات منه عد عيبا له عند الجميع، فكون الشاعر متفوقا في القوة الشعرية شئ وصدور ما لا يتناسب مع تلك القوة منه شئ آخر. وبعد كتابة ما تقدم عثرنا على كلام لصاحب الأغاني يوافق ما قلناه ويعضده:
قال عند ذكر ما عيب على أبي تمام وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسانه ولو كثرت إساءته أيضا ثم أحسن لم يقل له عند الاحسان أسأت ولا عند الصواب أخطأت والتوسط في كل شئ أجمل (والحق أحق أن يتبع). وقد روي عن بعض الشعراء أن أبا تمام