اعرابيا؟ قال نعم قال أبو ذر فاخرج إلى بادية نجد؟ قال عثمان بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا فلا تعدون الربذة، فخرج إليها. قال ابن أبي الحديد: روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس ان لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه وأمر مروان بن الحكم ان يخرج به فتحاماه الناس الا علي بن أبي طالب (ع) وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا عليهما السلام وعمارا، فإنهم خرجوا معه يشيعونه، فجعل الحسن (ع) يكلم أبا ذر، فقال مروان بن الحكم أيها يا حسن الا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلا هذا الرجل فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل علي (ع) على مروان فضرب بالسوط بين اذني راحلته وقال تنح لحاك الله إلى النار، فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على علي (ع)، ووقف أبو ذر فودعه القوم، ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب، قال ذكوان فحفظت كلام القوم - وكان حافظا - فقال علي (ع) يا أبا ذر انك غضبت لله ان القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى الفلا والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا، يا أبا ذر لا يؤنسنك الا الحق ولا يوحشنك الا الباطل. ثم قال لأصحابه ودعوا عمكم وقال لعقيل ودع أخاك. فتكلم عقيل فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر وأنت تعلم أنا نحبك وأنت تحبنا فاتق الله فان التقوى نجاة واصبر فان الصبر كرم واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع واستبطاءك العافية من الياس فدع الياس والجزع. ثم تكلم الحسن فقال يا عماه لولا أنه لا ينبغي للمودع ان يسكت وللمشيع ان ينصرف لقصر الكلام وان طال الأسف وقد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراقها وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها واصبر حتى تلقى نبيك صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنك راض. ثم تكلم الحسين (ع) فقال يا عماه ان الله تعالى قادر ان يغير ما قد ترى والله كل يوم هو في شان وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك فما أغناك عما منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم فاسال الله الصبر والنصر واستعذ به من الجشع والجزع فان الصبر من الدين والكرم وإن الجشع لا يقدم رزقا والجزع لا يؤخر أجلا ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا فقال لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من أخافك أما والله لو أردت دنياهم لآمنوك ولو رضيت أعمالهم لأحبوك وما منع الناس ان يقولوا بقولك الا الرضا بالدنيا والجزع من الموت ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم فخسروا الدنيا والآخرة الا ذلك هو الخسران المبين فبكى أبو ذر وكان شيخا كبيرا وقال رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم اني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام وكره ان أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فأفسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع الا الله والله ما أريد الا الله صاحبا وما أخشى مع الله وحشة ورجع القوم إلى المدينة (الخبر).
وقال المرتضى في كتاب (الفصول): قال الشيخ رحمه الله قال أبو مخنف وأخبرني عبد الملك ابن نوفل عن أبي سعيد المقبري قال: لما انصرف علي من تشييع أبي ذر استقبله الناس فقالوا: يا أبا الحسن غضب عليك عثمان لتشييعك أبا ذر! فقال علي (ع): (غضب الخيل على صم اللجم) اه. وروى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له الا تخبرني أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت كرها؟ قال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى المدينة فقلت دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى.
ثم تكلم ابن أبي الحديد على الاخبار المروية في أنه خرج إلى الربذة باختياره وقال إنها وان كانت قد رويت لكنها ليست في الاشتهار والكثرة كتلك الاخبار اه. وقال المرتضى في الشافي قال قاضي القضاة عبد الجبار الباقلاني في الجواب عن الطعن على عثمان في نفيه أبا ذر إلى الربذة ان شيخنا أبا علي - الجبائي - قال: ان الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى. وروي انه قيل لأبي ذر أعثمان أنزلك الربذة فقال لا بل اخترت لنفسي ذلك. روي أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام، فكتب عثمان اليه ان صر إلى المدينة فلما صار إليها، قال ما أخرجك إلى الشام؟ قال لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها فلذلك خرجت، فقال فأي البلاد أحب إليك بعد الشام؟ قال الربذة، فقال سر إليها.
وقد روي عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى وهو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال أخبرك اني كنت بالشام في أيام معاوية وقد ذكرت هذه الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم) فقال معاوية: هذه في أهل الكتاب، فقلت هي فيهم وفينا وكتب معاوية إلى عثمان في ذلك، فكتب إلي ان اقدم علي فقدمت عليه، فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني، فشكوت ذلك إلى عثمان، فخيرني وقال: انزل حيث شئت، فنزلت الربذة. وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم من أن اخراج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره، وروى في ذلك خبرا قال: وأقل ما في ذلك ان تختلف الاخبار فتطرح، ونرجع إلى الأمر الأول في صحة امامة عثمان وسلامة أحواله.
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال: أما قول أبي علي أن الأخبار في سبب خروج أبي ذر إلى الربذة متكافئة فمعاذ الله ان تتكافأ في ذلك، بل المعروف والظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة، وقد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم وأسانيدهم ان عثمان لما اعطى مروان بن الحكم ما أعطاه وأعطى الحرث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول (بشر الكافرين بعذاب أليم) ويتلو قول الله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)، فرفع ذلك مروان إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه ان انته عما يبلغني عنك! فقال أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وذكر ما مر سابقا إلى قوله فقال حبيب بن مسلمة ان كانت لكم حاجة فيه، ثم قال: فكتب معاوية إلى عثمان فيه، فكتب عثمان إلى معاوية: أما بعد فاحمل جنديا إلي، وذكر ما مر سابقا إلى قوله فلم يزل بها حتى مات اه. وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن عبد الرحمن بن غنم قال كنت مع أبي الدرداء فجاء رجل من قبل المدينة فسأله فأخبره ان أبا ذر مسير إلى الربذة، فقال أبو الدرداء إنا لله وإنا إليه راجعون لو أن أبا ذر قطع لي عضوا أو يدا ما هجته بعد ما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر اه.