عثمان نفى أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكى منه معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام اه.
سبب نفيه إلى الشام قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: واصل هذه الواقعة ان عثمان لما اعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال، واختص زيد بن ثابت بشئ منها جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع (بشر الكافرين بعذاب اليم) ويرفع بذلك صوته، ويتلو قوله تعالى * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم) *. فرفع ذلك إلى عثمان مرارا وهو ساكت، ثم إنه ارسل اليه مولى من مواليه ان انته عما بلغني عنك! فقال أبو ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى وعيب من ترك امر الله تعالى فوالله لأن ارضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضى عثمان، فاغضب عثمان ذلك واحفظه فتصابر وتماسك، إلى أن قال عثمان يوما والناس حوله: أيجوز للامام ان يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا باس بذلك، فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أتقلمنا ديننا! فقال عثمان قد كثر أذاك وتولعك بأصحابي الحق بالشام، فأخرجه إليها فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث اليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر لرسوله: ان كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا اقبلها، وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وردها عليه. ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية ان كانت هذه من مال الله فهي الخيانة، وان كانت من مالك فهي الاسراف، وكان أبو ذر يقول بالشام: والله لقد حدثت اعمال ما أعرفها والله ما هي في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم اني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيا وصادقا مكذبا واثرة بغير تقى وصالحا مستأثرا عليه. فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: ان أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله ان كان لك فيه حاجة. قال وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري قال: كنت عاملا لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان فجئت اليه يوما اسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار بحمل النار اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له: فازبار معاوية وتغير لونه وقال: يا جلام أتعرف الصارخ من هو؟ فقلت اللهم لا! قال من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت، ثم قال أدخلوه علي فجئ بأبي ذر بين قوم يقودونه حتى وقف بين يديه، فقال له معاوية يا عدو الله وعدو رسوله أتأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع، اما اني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك، ولكني استأذن فيك. قال جلام: وكنت أحب ان أرى أبا ذر لأنه رجل من قومي، فالتفت اليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال خفيف العارضين في ظهره حناء، فاقبل على معاوية وقال ما انا بعدو لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله أظهرتما الاسلام وأبطنتما الكفر ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا عليك مرات ان لا تشبع، فقال معاوية ما انا ذلك الرجل، فقال أبو ذر بل أنت ذلك الرجل، أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعته يقول وقد مررت به اللهم العنه ولا تشبعه الا بالتراب، فأمر معاوية بحبسه. وروى المفيد في المجالس عن علي بن بلال عن علي بن عبد الله الاصفهاني عن الثقفي عن محمد بن علي عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن أبي جهضم الأزدي عن أبيه - وكان من أهل الشام - قال: لما سير عثمان أبا ذر من المدينة إلى الشام كان يقص علينا فيحمد الله ويشهد شهادة الحق ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: اما بعد فانا كنا في جاهليتنا قبل ان ينزل علينا الكتاب ويبعث فينا الرسول ونحن نوفي بالعهد ونصدق الحديث ونحسن الجوار ونقري الضيف ونواسي الفقير، فلما بعث الله تعالى فينا رسول الله وانزل علينا كتابه كانت تلك الأخلاق يرضاها الله ورسوله، وكان أحق بها أهل الاسلام وأولى ان يحفظوها، فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا، ثم إن الولاة قد أحدثوا اعمالا قباحا لا نعرفها: من سنة تطفى وبدعة تحيى وقائل بحق مكذب واثرة لغير تقى وامين مستأثر عليه من الصالحين، اللهم ان كان ما عندك خيرا لي فاقبضني إليك غير مبدل ولا مغير. وكان يعيد هذا الكلام ويبديه، فاتى حبيب بن مسلمة معاوية بن أبي سفيان فقال: ان أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله كيت وكيت. فكتب معاوية إلى عثمان بذلك فكتب عثمان اخرجه إلي، فلما صار إلى المدينة نفاه إلى الربذة اه. وعن المجالس أيضا بهذا الاسناد عن أبي جهضم عن أبيه قال: لما اخرج عثمان أبا ذر الغفاري من المدينة إلى الشام كان يقوم في كل يوم فيعظ الناس ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ويحذرهم من ارتكاب معاصيه، ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام ويحضهم على التمسك بعترته: فكتب معاوية إلى عثمان:
اما بعد فان أبا ذر يصبح إذا أصبح ويمسي إذا امسى وجماعة من الناس كثيرة عنده فيقول كيت وكيت فإن كان لك حاجة في الناس قبلي فاقدم أبا ذر إليك فاني أخاف أن يفسد الناس عليك والسلام. فكتب إليه عثمان:
اما بعد فاشخص إلي أبا ذر حين تنظر في كتابي هذا والسلام. فبعث معاوية إلى أبي ذر فدعاه واقرأه كتاب عثمان وقال له: النجاء الساعة. فخرج أبو ذر إلى راحلته فشدها بكورها وانساعها، فاجتمع اليه الناس فقالوا يا أبا ذر رحمك الله أين تريد؟ قال أخرجوني إليكم غضبا علي، وأخرجوني منكم إليهم الآن عيثا بي ولا يزال هذا الأمر فيما أرى شانهم فيما بيني وبينهم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ومضى وسمع الناس بمخرجه فاتبعوه حتى خرج من دمشق فساروا معه حتى انتهى إلى دير المران فنزل ونزل معه الناس فاستقدم فصلى بهم، ثم قال أيها الناس اني موصيكم بما ينفعكم وتارك الخطب والتشقيق احمدوا الله عز وجل، قالوا الحمد لله، قال أشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله فأجابوه بمثل ما قال فقال أشهد ان البعث حق وان الجنة حق وان النار حق وأقر بما جاء من عند الله واشهدوا علي بذلك، قالوا نحن على ذلك من الشاهدين قال ليبشر من مات منكم على هذه الخصال برحمة الله وكرامته ما لم يكن للمجرمين ظهيرا أو لأعمال الظلمة مصلحا أو لهم معينا أيها الناس اجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضبا لله عز وجل إذا عصي في الأرض ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله وان أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم وازروا عليهم وان عذبتم وحرمتم وسيرتم حتى يرضى الله عز وجل فان الله أعلى وأجل لا ينبغي ان يسخط برضى المخلوقين غفر الله لي ولكم استودعكم الله واقرأ عليكم السلام ورحمة الله، فناداه الناس ان سلم الله عليك ورحمك يا أبا ذر يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا نردك ان كان هؤلاء القوم أخرجوك الا نمنعك؟ فقال لهم: ارجعوا رحمكم الله فاني أصبر منكم على البلوى وإياكم