أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين - ج ٤ - الصفحة ٢١١
نحو سنة وهو ينتقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر حتى وافى مكة المكرمة سنة 1273 فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته واكتنه أخلاقهم وأصاب من ذلك فوائد غزيرة، ثم رجع بعد أداء فريضة الحج إلى بلاده. وفي سنة 1285 سافر إلى الحج على طريق الهند فلما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة في اجلال الا انها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولم تأذن للعلماء في الاجتماع عليه الا على عين من رجالها، فلم يقم أكثر من شهر، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس فجاء إلى مصر واقام فيها نحو أربعين يوما تردد فيها على الجامع الأزهر وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين ومالوا اليه كل الميل وسألوه ان يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضا منه في بيته، ثم تحول عزمه عن الحجاز، وسارع بالسفر إلى الآستانة، وبعد أيام من وصوله إليها أمكنته ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة وعرف له الصدر فضله وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله وهو مع ذلك بزيه الأفغاني قباء وكساء وعمامة عجراء، وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، وبعد ستة أشهر سمي عضوا في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه. ومن تلك الطرق ما احفظ عليه قلب شيخ الاسلام لتلك الأوقات حسن فهمي أفندي لأنها كانت تمس شيئا من رزقه، فأرصد له العنت حتى كان رمضان سنة 1287 فرغب إلى مدير دار الفنون تحسين أفندي ان يلقي فيها خطابا للحث على الصناعات، فاعتذر اليه بضعفه في اللغة التركية فالح عليه تحسين أفندي، فأنشأ خطابا طويلا كتبه قبل القائه وعرضه على وزير المعارف، وكان صفوة باشا وعلى شرواني زاده وكان مشير الضابطية وعلى دولتلو منيف باشا ناظر المعارف - وكان عضوا في مجلس المعارف - واستحسنه كل منهم وأطنب في مدحته، فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب تسارع الناس إلى دار الفنون واحتفل له جمع غفير من رجال الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب الجرائد وحضر في الجمع معظم الوزراء وصعد السيد جمال الدين على منبر الخطابة وألقى ما كان أعده وأرسل حسن فهمي أفندي أشعة نظره في تضاعيف الكلام ليصيب منه حجة للتمثيل به وما كان يجدها لو طلب حقا ولكن كان الخطاب في تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي وان كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن يؤدي من المنفعة في المعيشة ما يؤديه العضو في البدن فشبه الملك مثلا بالمخ الذي هو مركز التدبير والإرادة. والحدادة بالعضد والزراعة بالكبد والملاحة بالرجلين ومضى في سائر الصناعات والأعضاء حتى اتى على جميعها ببيان ضاف واف ثم قال هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية ولا حياة لجسم الا بروح وروح هذا الجسم اما النبوة واما الحكمة ولكن يفرق بينهما بان النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب يختص الله بها من يشاء من عباده والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
اما الحكمة فمما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات وبأن النبي معصوم من الخطا، والحكيم يجوز عليه الخطا بل يقع فيه وان احكام النبوات آتية على ما في علم الله لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فالاخذ بها من فروض الايمان، اما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها الا من باب ما هو الأولى والأفضل على شريطة ان لا تخالف الشرع الإلهي. هذا ما ذكرناه متعلقا بالنبوة وهو منطبق على ما اجمع عليه علماء الشريعة الاسلامية الا ان حسن فهمي أفندي أقام من الحق باطلا ليصيب غرضه من الانتقال فأشاع ان الشيخ جمال الدين زعم أن النبوة صنعة واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة (وهكذا تكون حجج طلاب العنت)، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد ان يذكروا ذلك محفوفا بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه واثبات براءته مما رمي به، ورأى أن ذلك لا يكون الا بمحاكمة شيخ الاسلام (وكيف يكون ذلك) واشتد في طلب المحاكمة واخذت منه الحدة مبلغها وأكثرت الجرائد من القول في المسالة، فمنها نصراء الشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الاسلام، فأشار بعض أصحاب السيد عليه ان يلزم السكون ويغضي على الكريهة وطول الزمان يتكفل باضمحلال الإشاعات وضعف اثرها، فلم يقبل ولج في طلب المخاصمة فعظم الأمر، وآل إلى صدور امر الصدارة اليه بالجلاء عن الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب، ثم يعود ان شاء، ففارق الآستانة مظلوما في حقه مغلوبا لحدته (1) وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في

(١) قال الأستاذ أبو رية في مجلة العربي:
لما ضاق الظالمون والمستعمرون به ذرعا، بعد ان سعرها عليهم نارا تلظى، لم يجدوا مناصا من أن يأتمروا به، ليستريحوا منه، فدبر لهم الطغيان ممثلا في شخص عبد الحميد الذي كان سلطانا على الدولة العثمانية، وامامه الأكبر (أبي الهدى الصيادي) شيخ الطريقة الرفاعية، وصاحب الكلمة العليا في بلاط السلطان.
وقد نشأ التفكير في تدبير هذه المؤامرة عندما كان السيد جمال الدين في باريس يحرر هو والأستاذ الإمام محمد عبده صحيفة (العروة الوثقى)، إذ علم السلطان عبد الحميد ان السيد جمال الدين متصل بأعضاء جمعية (تركيا الفتاة) التي كانت تعمل على خلعه، وتخليص تركيا من طغيانه وبخاصة لما رأى أن العروة الوثقى تنوه بهذه الجمعية، وان السيد جمال الدين يسميها (الجمعية الصالحة) ويباركها ويدعو الله لها بالتوفيق في عملها.
ثم ازداد مقت السلطان وغضبه عليه عندما جاءته شكوى من شاه إيران بان السيد جمال الدين يشهر بأعماله الظالمة في بلاده ويؤلب صحف أوروبا عليه، ويطلب من السلطان عبد الحميد ان يعمل ما استطاع على إزالة هذا الكابوس الذي يجثم على صدر كل حاكم ظالم، وانه إذا لم يتدارك الأمر اليوم فان النار ستندلع حتى تصل إلى الآستانة.
ولم تكد هذه الشكوى تصل إلى السلطان عبد الحميد حتى تولاه الذعر والهلع، واخذ هو وهامانه أبو الهدى، وحاشيته، في تنفيذ ما ائتمروا به. وكان أول شئ فعلوه ان سعوا في اجتذاب السيد جمال الدين إلى الآستانة - وكان حينئذ في لندن - حتى يكون أدنى إلى المقصلة، فبعث اليه السلوان بخطاب خلاب طلب فيه ان يأتي إلى الآستانة. فأبى السيد في أول الأمر ان يستجيب له. فعاد السلطان وعزز خطابه الأول بخطاب أكثر مداهنة واستعطافا، ووعده فيه بان يعود إلى أوروبا بعد (الحظوة) بالمقابلة! فخدع السيد وأجاب الدعوة وهو لا يعلم ما خبأه له القدر من كيد السلطان وحزبه! وما كاد يصل إلى الآستانة، حتى وضعوه في قفص من ذهب - كما وصف ذلك سائح ألماني - ولم يمكنوه من مغادرة البلاد.
ولبثوا بعد ذلك يتحينون فرصة يهتبلونها للفتك به إلى أن جرت مقابلة بين السيد الأفغاني وبين خديوي مصر، الخديوي عباس حلمي، فتذرعوا بها للوصول إلى ما يضمرون، فزعموا أن وراء هذه المقابلة مؤامرة خطيرة هي خلع الخلافة عن السلطان عبد الحميد، واعطاؤها إلى عباس حلمي خديوي مصر، وبذلك تصبح عباسية، بعد ان كانت عثمانية. وجعلوا ثالث المتآمرين في ذلك السيد عبد الله نديم إذ عزوا اليه انه هو الذي جمع بين الخديوي عباس وبين السيد جمال الدين.
وقد روى هذا الأمر احمد شفيق باشا، المصري، في كتابه (مذكراتي في نصف قرن) فقال:
(ان الخديوي عباس حلمي الثاني لم زار الآستانة في سنة 1893 للمرة الأولى بعد ولايته كان شديد الرغبة في مقابلة السيد جمال الدين الأفغاني، لما كان يسمع عنه في مصر، فأرسل اليه مصطفى أفندي الحصري المصري لتحديد موعد المقابلة، فأفهمه السيد جمال الدين، ان هذه المقابلة لن تكون الا بعد اذن السلطان! فاستأذن الخديوي السلطان غير مرة دون جدوى).
(وذات يوم بينما كان الخديوي ممتطيا جواده متنزها في الكاغد خانة قابل السيد جمال الدين، وعرفه بنفسه، ومكثا نحو ساعة يتجاذبان أطراف الحديث. فوصل الخبر إلى السلطان،
(٢١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 206 207 208 209 210 211 212 213 214 215 216 ... » »»
الفهرست