أكنافه ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع كأن ذهنه عالم الصنع والابداع وله لسن في الجدل وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيهما أحد الا ان يكون في الناس من لا نعرفه وكفاك شاهدا على ذلك أنه ما خاصم أحدا الا خصمه ولا جادله عالم الا ألزمه وقد اعترف له الأوروبيون بذلك بعد ما أقر له الشرقيون وبالجملة فاني لو قلت إن ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة هو أقصى ما قدر لغير الأنبياء لكنت غير مبالغ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
اما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفائه وله حلم عظيم يسع ما شاء الله ان يسع إلى أن يدنو منه أحد ليمس شرفه أو دينه فينقلب الحلم إلى غضب تنقض منه الشهب فبينما هو حليم أواب إذا هو أسد وثاب. وهو كريم يبذل ما بيده قوي الاعتماد على الله لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر عظيم الأمانة سهل لمن لاينه صعب على من خاشنه طموح إلى مقصده السياسي الذي قدمناه إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول اليه وكثيرا ما كان التعجل علة الحرمان وهو قليل الحرص على الدنيا بعيد من الغرور بزخارفها ولوع بعظائم الأمور عزوف عن صغارها شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه الا انه حديد المزاج وكثيرا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة الا انه صار اليوم في رسوخ الأطواد وثبات الأفناد فخور بنسبه إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم لا يعد لنفسه مزية ارفع ولا عزا امنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر وبالجملة ففضله كعلمه والكمال لله وحده.
اما خلقه فهو يمثل لناظره عربيا محضا من أهالي الحرمين فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز حماه الله. ربعة في طوله وسط في بنيته قمحي في لونه عصبي دموي في مزاجه عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق ضخم الوجنات رحب الصدر جليل في النظر هش بش عند اللقاء قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه.
بقي علينا ان نذكر له وصفا لو سكتنا عنه سئلنا عن إغفاله وهو انه كان في مصر يتوسع في اتيان بعض المباحات كالجلوس في المتنزهات العامة، والأماكن المعدة لراحة المسافرين، وتفرج المحزونين، لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار. وكان مجلسه في تلك المواضع لا يخلو من الفوائد العلمية، فكان بعيدا عن اللغو منزها عن اللهو، وكان يوافيه فيها كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم. وهذا الوصف ربما عده عليه بعض حاسديه، لكن الله يحب ان تؤتى رخصه كما يحب ان تؤتى عزائمه، واي غضاضة على المرء المؤمن في أن يفرج بعض همه بما أباح الله له. هذا مجمل من أحوال السيد جمال الدين الأفغاني اتينا به دفعا لما افتراه عليه الجاهلون، ولو سلكنا في تاريخه مسلك التفصيل لأدى بنا إلى التطويل اه.
ثم اتبع الشيخ محمد عبده ذلك بما كتبه سليم العنحوري تخطئة لنفسه فيما نقله في شرح سحر هاروت قال: والمطلع ما كتبناه يعلم خطأه في جل ما رواه، وهذا ما نشره العنحوري في جريدة لسان الحال وغيرها بحروفه، قال:
لا يخفى اننا كنا اتينا في حاشية كتابنا (سحر هاروت) على شئ من ترجمة الحكيم الشرقي الغزير المادة السيد جمال الدين الأفغاني الطائر الصيت وأبنا في عرض قصصنا لمحة مما تلقيناه عن بعض المصريين والسوريين من سوء عقيدته ووهن دينه، مما كان مدعاة أسفنا وباعث استغرابنا، ثم أسعدنا البخت بان التقينا هاته الأيام بصديقنا المحلي بحلية الفضل الحائز قصب السبق في مضماري العقل والنقل الشيخ محمد عبده أعز اخلاء الحكيم المشار اليه فجال بيننا حديث أفضى إلى البحث بما يرويه عنه بعض الناس ورويناه نحن عنهم فأوضح لنا بدلائل ناهضة وبراهين داحضة ان ما تتناقله الألسن من هذا القبيل ما كان الا من آثار ما رماه بعض من غمرتهم أياديه فجازوه بالكنود يعني بهم قوما كفرة تزلفوا اليه فاغتر ببراقيش ألسنتهم، ووطأ لهم جانب الأنس، سالكا في سبيل اسعادهم كل سبيل، فلما دارت عليه الدوائر وتحولت الأحوال اخذوا يتحججون بالتلمذة عليه، وينسبون ما اشربوا من الكفر اليه. وبين لنا بأجلى أسلوب ان المباحث التي كان يدور بها لسانه أثناء مناظرته الجدلية في بيان عقائد المعطلين كان المراد منها اظهار حقائق النحل والبدع بمعزل عن الاعتقاد بها والجنوح إليها بل مع تعقيبها بالرد عليها وإقامة الحجج على بطلانها، ثم تأييدا لمقالة هذا وقفنا على رسالة منسوجة بقلم السيد المشار اليه سواء بها أصحاب المبادئ المعطلة من اي فريق كانوا، وبين قبح طريقتهم بعبارة حنيف عريق بالاسلام، نثبت هنا منها مبحثه في طريقة اعتقاد الألوهية لسعادة الانسان. قال بعد بيان وجوه زعموها كافية لصلاح النوع البشري، ورد ما زعموا: (فاذن لم يبق للشهوات قامع ولا للأهواء رادع الا الايمان بان للعالم صانعا عالما بمضمرات القلوب ومطويات الأنفس سامي القدرة واسع الحول والقوة، مع الاعتقاد بأنه قد قدر للخير والشر جزاء يوفاه مستحقه في حياة بعد هذه الحياة السرمدية.) ثم قال: (فلم تبق ريبة في أن الدين هو السبب الفرد لسعادة الإنسان، فلو قام الدين على قواعد الأمر الإلهي الحق ولم يخالطه شئ من أباطيل من يزعمونه ولا يعرفونه، فلا ريب يكون سببا في السعادة التامة والنعيم الكامل ويذهب بمعتقديه في جواد الكمال الصوري والمعنوي ويصعد بذويه إلى ذروة الفضل الظاهري والباطني، ويرفع اعلام المدنية لطلابها، بل يفيض على المتمدنين من ديم الكمال العقلي والنفسي ما يظفرهم بسعادة الدارين.) ثم اتى بعد هذا في مزايا الدين الاسلامي خصوصا بما يطول بيانه، ويعلمه من اطلع على تلك الرسالة هذا كله بعد ما قال في وصف الماديين: (انهم كيفما ظهروا وفي اي صورة تمثلوا وبين اي قوم نجموا كانوا صدمة شديدة على بناء قومهم وصاعقة مجتاحة لثمار أممهم وصدعا متفاقما في بنية جيلهم، يميتون القلوب الحية بأقوالهم وينفثون السم في الأرواح بآرائهم ويزعزعون راسخ النظام بمساعيهم، فما رزئت بهم أمة ولا مني بشرهم جيل الا انتكث فتله وتبددت آحاده وفقد قوام وجوده.) ثم أطال في بيان ذلك إلى حد لم يبق معه محل للريبة في كمال اعتقاده وجلاء يقينه، فأخذتنا لذلك خفة الطرب، وسارعنا لإذاعته بلسان الصحف شان المؤرخ العادل وقياما بحق الأدب وضنا بفضل هذا الرجل الخطير من أن تتناوله السنة من لا يعرفه خطأ وافتراء، والله يتولى الصادقين اه.
أخباره قال الشيخ محمد عبده في ترجمته المتقدمة إليها الإشارة: انه سافر إلى الهند وعمره 18 سنة اي سنة 1272، فأقام بها سنة وبضعة اشهر، وأتى بعد ذلك الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج، وطالت مدة سفره إليها