كان ذكيا منطقيا استطاع بذكائه وفطنته وفصاحة لسانه وقوة بيانه ان ينخرط في سلك العلماء الكبار بعلم قليل حصله في هذه المدة. ثم يقول الشهرستاني ان الشيخ مرتضى كان يوليه لطفا وعطفا وحبا ويبشر أباه في رسائله اليه بحسن مستقبله فحسده على ذلك بعض الطلاب من زملائه واضمر له السوء فاطلع الأنصاري على ذلك فأرسل جمال الدين إلى الهند مع بعض خواصه المسمى البير فأوصله إلى بمبئي وهو لم يتجاوز الخمسة عشر عاما اه وهذا كسابقه لا يساعد عليه النظر الصادق والذي يلوح انه بعد ما بقي في النجف أربع سنين تاقت نفسه إلى السفر بما طبع عليه من حب الأسفار. وفي كتاب حاضر العالم الاسلامي تأليف لوثروت ستودارد الأميركي وترجمة عجاج نويهض ج 1 ص 135 كان جمال الدين سيد النابغين الحكماء، وأمير الخطباء البلغاء وداهية من أعظم الدهاة دامغ الحجة قاطع البرهان ثبت الجنان متوقد العزم شديد المهابة كان في ناسوته اسرار المغنطيسية فلهذا كان المنهاج الذي نهجة عظيما. وكانت سيرته كبيرة فبلغ من علو المنزلة في المسلمين ما قل ان يبلغ مثله سواه. وكان سائحا جوابا، طاف العالم الاسلامي قطرا قطرا وجال غربي أوروبا بلدا فاكتسب من هذه السياحات الكبرى ومن الاطلاع العميق والتبحر الواسع في سير العالم والأمم علما راسخا واكتنه اسرار خفية واستبطن غوامض كثيرة، فاعانه ذلك عونا كبيرا على القيام بجلائل الأعمال التي قام بها. وكان جمال الدين بعامل سجيته وطبعه وخلقه داعيا مسلما كبيرا فكأنه على وفور استعداده ومواهبه انما خلقه الله في المسلمين لنشر الدعوة فحسب فانقادت له نفوسهم وطافت متعاقدة من حوله قلوبهم فليس هناك من قطر من الأقطار الاسلامية وطئت ارضه قدما جمال الدين الا وكانت فيه ثورة فكرية اجتماعية لا تخبو نارها ولا يبرد أوارها وكان يختلف عن السنوسي منهاجا فجمال الدين كان أول مسلم أيقن بخطر السيطرة الغربية المنتشرة في الشرق الاسلامي وتمثل عواقبها فيما إذا طال عهدها وامتدت حياتها ورسخت في تربة الشرق قدمها وأدرك شؤم المستقبل وما سينزل بساحة الاسلام والمسلمين من النائبة الكبرى إذا لبث الشرق الاسلامي على حال مثل حاله التي كان عليها، فهب جمال يضحي نفسه ويفني حياته في سبيل ايقاظ العالم الاسلامي وانذاره بسوء العقبى، ويدعوه إلى اعداد ذرائع الدفاع لساعة يصيح فيها النفير. فلما اشتهر شأن جمال خشيت الحكومات الاستعمارية امره وحسبت له ألف حساب، فنفته بحجة انه هائج المسلمين ولم تخف دولة جمالا وتضطهده مثل ما خافته واضطهدته الدولة البريطانية، فسجنته في الهند مدة ثم أطلقت سراحه. فجاء إلى مصر حوالي سنة 1880 وكانت له يد في الثورة العرابية التي أوقدت نارها في وجه الغربيين فلما احتل الإنكليز مصر 1882 نفوا جمالا للحال، فزايل مصر وأنشأ يسيح في مختلف البلدان حتى وصل إلى القسطنطينية فتلقاه عبد الحميد بطل الجامعة الاسلامية بالمبرة والكرامة، وقربه منه ورفع منزلته، فسحر جمال السلطان الداهية بتوقد ذكائه ونفسه الكبيرة فقلده رياسة العمل في سبيل الدعوة للجامعة الاسلامية، ويغلب ان ما ناله السلطان عبد الحميد من النجاح في سياسته في سبيل الجامعة الاسلامية انما كان على يد جمال الدين المتوقد الهمة المشتعل العزم، والتحق جمال الدين بالرفيق الأعلى سنة 1896 شيخا وعاملا كبيرا في سبيل النهضة الاسلامية حتى النفس الأخير من أنفاسه اه.
وقال الأمير شكيب فيما علقه على كتاب حاضر العالم الاسلامي:
السيد محمد بن صفتر صوابه صفدر من أعاظم رجال الاسلام في القرن التاسع عشر، كان بحسب رأي براون فيلسوفا كاتبا خطيبا صحفيا، وقبل كل شئ كان رجلا سياسيا يرى فيه مريدوه وطنيا كبيرا، وأعداؤه مهيجا خطيرا. وقد كان له تأثير عظيم في حركات الحرية والمنازع الشوروية التي جدت في العشرات الأخيرة من هذه السنين في الحكومات الاسلامية وكانت حركته ترمي إلى تحرير هذه الممالك من السيطرة الأوروبية وانقاذها من الاستغلال الأجنبي والى ترقية شؤونها الداخلية بتأسيس إدارات حرة.
وكذلك كان يفكر في جمع هذه الحكومات بأجمعها ومن جملتها إيران الشيعية حول الخلافة الاسلامية لتتمكن بذلك الاتحاد من منع التدخل الأوروبي في أمورها، فجمال الدين بقلمه ولسانه أصدق ممثل لفكرة الجامعة الاسلامية اه.
وقال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في ترجمته التي صدر بها رسالة السيد جمال الدين في الرد على الدهرية بعد حذف ما يتعلق بكونه أفغانيا مما مر: يحملنا على ذكر شئ من سيرة هذا الرجل الفاضل ما رأيناه من تخالف الناس في امره وتباعد ما بينهم في معرفة حاله وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله والرجل في صفاء جوهره وزكاء مخبره لم يصبه وهم الواهمين ولم يمسه ضرر الخراصين وانا نذكر مجملا من خبره نرويه عن كمال الخبرة وطول العشرة هو السيد محمد جمال الدين ابن السيد صفتر - الصواب صفدر - ولد في أسعدآباد - الصواب أسدآباد - سنة 1254 هجرية وفي السنة الثامنة من عمره اجلس للتعلم وعني والده بتربيته وأيد العناية به قوة في فطرته وإشراق في قريحته وذكاء في مدركته فاخذ من بدايات العلوم ولم يقف دون نهاياتها تلقى علوما جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عام وخاص ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوف ومنها علوم عقلية من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية وتهذيبية وحكمة نظرية طبيعية والاهية ومنها علوم رياضية من حساب وهندسة وجبر وهياة أفلاك ومنها نظريات الطب والتشريح اخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين على الطريقة المعروفة في تلك البلاد وعلى ما في الكتب الاسلامية المشهورة واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية فأقام بها سنة وبضعة أشهر ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوروبية الجديدة اما مقصده السياسي الذي قد وجه اليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي اليه مدة حياته وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله فهو انهاض دولة اسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة والدولة بالدول القوية فيعود للاسلام شانه وللدين الحنيفي مجده ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الاسلامية وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها.
اما منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدها قلمي الا بنوع من الإشارة إليها: لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وابرازها في صورها اللائقة بها كان كل معنى قد خلق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش فنظرة منه تفكك عقدها، كل موضوع يلقى اليه يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه فيأتي على أطرافه ويحيط بجميع