الحميد جدا ان يجري له عملية جراحية لم تنجح ومات بعد أيام قلائل فقيل إن العملية لم تعمل على الوجه اللازم لها عمدا وقيل لم تلحق بالتطهيرات الواجبة فنا، وينقل عن صديقه الكونت لاون استروروع المستشرق انه حدثه في لوزان ان المترجم كان صديقه فدعاه اليه بعد اجراء العملية الجراحية وقال له ان السلطان أبى ان يتولى العملية الا جراحه الخاص وانه هو رأى حاله ازدادت شدة بعد العملية فيرجو منه ان يرسل اليه جراحا فرنسويا طاهر الذمة لينظر في عقب العملية فأرسل اليه الدكتور (لاردي) فوجد أن العملية لم تجر على وجهها ولم تعقبها التطهيرات اللازمة وان المريض قد أشفى، قال: وقال لي واحد ممن كانوا في خدمة عبد الحميد وقد رويت له هذه القصة ان قمبور زاده إسكندر باشا كان أطهر وأشرف من أن يرتكب مثل تلك الدناءة لكن كان رجل عراقي اسمه جارح طبيب أسنان يتردد كثيرا على جمال الدين ويعاين له أسنانه وكانت نظارة الضابطة قد جعلت جارحا هذا جاسوسا على المترجم، قال لي صاحب هذه الرواية فأردت ان امنع جارحا من الاختلاط بجمال الدين فأشار إلي ناظر الضابطة ان أتركه ولم تمض أشهر حتى ظهر السرطان في فك المترجم من الداخل وأجريت له عملية جراحية فلم تنجح، وجارح هذا ملازم للمريض، وبعد موته كنا نراه دائما حزينا كئيبا كاسف البال واجم الوجه خزيان بما جعلنا نشتبه في أن يكون ذا يد في إفساد الجرح أو في توليد المرض نفسه، لا أجزم بكونه هكذا فعل لكنني أجزم بأنه كان جاسوسا على المترجم اه وكل هذه الأقوال المتضاربة حدس وتخمين لا يستند واحد منها إلى دليل ويقع مثلها من الناس في أمثال هذه المقامات والظاهر أنه مات حتف انفه بمرض السرطان أو غيره.
هو إيراني لا أفغاني أما نسبته إلى الأفغان واشتهاره بالأفغاني فمن المشهورات التي لا أصل لها - ورب مشهور لا أصل له - وسبب اشتهاره بذلك انه نسب نفسه إلى الأفغان في مصر وخلافها لا إلى إيران تعمية للأمر، ولولا ذلك لما سمي بحكيم الاسلام وفيلسوف الشرق، ولا كانت له هذه الشهرة الواسعة، ولا انزله الصدر الأعظم علي باشا في استانبول منزلة الكرامة، ولا اقبل عليه بما لم يسبق لمثله، ولا عظمه الوزراء والأمراء ولا عين عضوا في مجلس المعارف ولا اجرت له حكومة مصر ألف قرش مصري مشاهرة ولا عكف عليه الطلبة للتدريس في مصر، ولا تمكن الشيخ محمد عبده ان يصاحبه ويأخذ عنه ويتخذه مرشدا وصديقا حميما إلى غير ذلك مما يأتي. ومع ذلك فقد انتدب بعض المصريين لذمه في كتاب مطبوع رأيت اسمه ولم أره سماه فيه بكلب العجم.
ويقال انه سئل عن سبب قوله انه أفغاني فأجاب بان ذلك للتخلص من مضايقة مأموري إيران في الخارج ولكن الصواب ما مر. ومن هنا يلزم ان لا يعتمد على المشهورات دينية كانت أو عادية قبل البحث والتنقيب والتحقيق والتمحيص، خصوصا ما يوافق الميول المذهبية والعقائد الخاصة. فهذا الرجل قد ترجمه تلميذه وخريجه الشيخ محمد عبده المشهور في صدر رسالة المترجم في الرد على الدهرية، وبالطبع قد تلقى هذه المعلومات من أستاذه المذكور كما يدل عليه قوله الآتي: وانا نذكر مجملا من خبره نرويه عن كمال الخبرة وطول العشرة قال في جملة ما قال: هو من بيت عظيم في بلاد الأفغان يتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث المشهور ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي. وآل هذا البيت عشيرة وافرة العدد تقيم في خطة (كنر) من اعمال كابل تبعد عنها مسيرة ثلاثة أيام ولهذه العشيرة منزلة علية في قلوب الأفغانيين لحرمة نسبها وكانت لها سيادة على جزء من الأراضي الأفغانية تستقل بالحكم فيها وانما سلب الامارة من أيديها دوست محمد خان أحد امراء الأفغان وامر بنقل السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل وانه ولد السيد جمال الدين في قرية (أسعدآباد) الصواب أسدآباد - من قرى (كنر) وانتقل بانتقال أبيه إلى مدينة كابل وانه دخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان ولما زحف الأمير إلى هراة ليفتحها على السلطان احمد شاه صهره وابن عمه سار السيد جمال الدين معه في جيشه ولازمه مدة الحصار إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة وتقلد الامارة ولي عهدها شير علي خان سنة 1280 وأشار عليه وزيره محمد رفيق خان ان يقبض على اخوته وكان منهم في الجيش ثلاثة محمد أعظم ومحمد اسلم ومحمد امين وكان هوى السيد جمال الدين مع محمد أعظم فأحسوا بذلك وفروا كل إلى ولايته التي كان يليها أيام أبيه وبعد مجالدات عنيفة عظم امر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن وتغلبا على عاصمة المملكة وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن غزنة وسمياه أميرا على أفغانستان ومات بعد سنة وقام في الامارة بعد شقيقه محمد أعظم وارتفعت منزلة السيد جمال الدين عنده فاحله محل الوزير الأول وعظمت ثقته به فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها - على خلاف ما تعوده امراء تلك البلاد من الاستبداد المطلق وعدم التعويل على رجال حكومتهم - وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته الذي حمله على تفويض مهمات الأعمال إلى أبنائه الأحداث فساق الطيش أحدهم وهو حاكم قندهار على منازلة عمه شير علي في هراة، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعته الجرأة على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي واخترق بها صفوف أعدائه فأوقع الرعب في قلوبهم وكادوا ينهزمون لولا أن يعقوب خان قائد شير علي التفت فوجد ذلك الغر المتهور منقطعا عن جيشه فكر عليه واخذه أسيرا وتشتتت جند قندهار وحمل شير علي على قندهار واستولى عليها وبعد حروب هائلة تغلب شير علي وانهزم محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن فذهب عبد الرحمن إلى بخارى وذهب محمد أعظم إلى إيران ومات بعد أشهر في نيسابور وبقي السيد جمال الدين في كابل ولم يمسه الأمير بسوء احتراما لعشيرته الا انه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به فرأى السيد جمال الدين خيرا له ان يفارق بلاد الأفغان فاستأذن للحج فاذن له على شرط ان لا يمر ببلاد إيران كيلا يلتقي فيها بمحمد أعظم فارتحل عن طريق الهند سنة 1285 إلى أن قال: اما مذهبه فحنيفي حنفي طبعا لأن الغالب على الأفغانيين المذهب الحنفي قال وهو وان لم يكن في عقيدته مقلدا لكنه لم يفارق السنة الصحيحة مع ميل إلى مذهب الصوفية (انتهى محل الحاجة).
وكل ذلك لا نصيب له من الصحة بل يشبه قصص ألف ليلة وليلة والظاهر أن جمال الدين كان يملي هذه القصص على تلميذه الشيخ محمد عبده مبالغة في تعمية الأمر وإغراقا في اثبات انه أفغاني. فالرجل إيراني أسدآبادي همذاني لا أفغاني ولا كابلي ولا كنري بل لعله لم ير الأفغان ولا كابل في عمره، وعشيرته في أسدآباد حتى اليوم لم تكن لها سيادة على جزء من ارض الأفغان ولا دخل الأفغان واحد منها.