العرابية في غيابه، وأحتل الإنكليز مصر. ثم يقول: وفي سنة 1885 ذهب جمال الدين إلى أوروبا، وأول مدينة صعد إليها لندرة، ثم تحول منها إلى باريز حيث وافاه الشيخ محمد عبده أكبر تلاميذه، وأكمل وعاة علومه، فأصدر فيها (العروة الوثقى) التي بلغت من أيقاظ الشرق وهز أعصاب العالم الاسلامي ما لم تبلغه صحيفة سيارة قبلها ولا بعدها، ولكن لم يسعفهما الوقت ان يصدرا منها الا بضعة عشر عددا، فعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت حيث كان منفاه على اثر الحادثة العرابية، وبقي جمال الدين في أوروبا يجول في مدنها ويجالس أهل العلم فيها، ثم عاد إلى إيران.
وهنا اختلفت الرواية فيما علقه الأمير شكيب على الكتاب المذكور في سبب عوده إليها، فعلى رواية ان الشاه اجتمع به في (ميونخ) عاصمة (بافاريا)، فدعاه الشاه ان يكون بمعيته لما شاهده من وفرة علمه وفضله، وتقدم اليه في الذهاب معه إلى طهران، فلبى السيد دعوته.
وعلى رواية أخرى ان الشاه ناصر الدين دعاه بالبرق سنة 1886 م إلى حاضرة ملكه طهران، فأكرم مثواه وبالغ في الاحتفاء به، ولكن خشية الرقباء حملت جمال الدين على الاستئذان من الشاه والذهاب إلى الروسية حيث أقام مدة وصارت له علاقات كثيرة اه.
ويفهم مما كتبه السيد صالح الشهرستاني في مجلة العرفان نقلا عن الميرزا صادق خان البروجردي - أحد أصحاب السيد جمال الدين - ان خروجه إلى الروسية كان بأمر من ناصر الدين شاه سنة 1304 والله أعلم. وقال الميرزا صادق: وفي أواخر عام 1307 وأوائل عام 1308 عاد إلى طهران من روسية ونزل في دار الحاج محمد حسن كمباني امين دار الضرب، وكان في جميع مجالسه وأحاديثه ينتقد السلطان ناصر الدين ووزيره يومئذ ميرزا علي أصغر خان الملقب امين السلطان، ويدعو إلى الاصلاح ومقاومة الاستبداد، وبلغ ذلك الوزراء فأبلغوه الشاه وأقنعوه باصدار أوامره سرا إلى الحاج محمد حسن كمباني ليعتذر من السيد جمال الدين بعذر مشروع في مفارقته ليخرج من داره فأخبر صاحب الدار بان أخاه التاجر في أوروبا مريض ويضطره ذلك إلى السفر لملاحظته، فعرف المترجم مقصوده وأجابه بأنني أيضا لا ارغب في البقاء في طهران، وسافر في اليوم الثاني إلى مشهد السيد عبد العظيم الذي يبعد عن طهران نحوا من فرسخ، فبقي فيه ما يزيد عن سبعة أشهر لا يفتر فيها عما كان يبثه في طهران، وبالطبع كان ذلك كله يبلغ مسامع ناصر الدين ووزرائه، فأمر بابعاده إلى كرمانشاه ومنها إلى خارج إيران - العراق - وفي ليلة من ليالي شعبان سنة 1308 جاء اليه المدعو آقا باقر خان سردار مع ستة من أهل البلد وأخبره بان الشاه لا يرى صلاحا في بقائه بإيران وان الحصان حاضر فليتفضل ويركبه، فأجابه بأني أنا كنت غير راغب في المجئ إلى طهران والبقاء فيها، ولكن الشاه نفسه هو الذي أصر علي بالمجئ إليها، ولا تزال كتبه الكثيرة التي يدعوني فيها للعودة إلى إيران محفوظة عندي، وطلب ان يسمح له بزيارة عبد العظيم فسمح له بذلك، فلما دخل المشهد أطال المكث فيه، فأمر باقر خان من معه باخراجه قهرا، فأخرج بصورة قبيحة، وقد صادفوه خارجا.
هذه رواية تلميذه الميرزا صادق البروجردي التي رواها عنه السيد صالح الشهرستاني، والذي يلوح انه احتمى بمشهد عبد العظيم وامتنع عن الخروج فأخرج قهرا بتلك الصورة وكتابه إلى الميرزا الشيرازي الآتي يصرح بذلك، حيث يقول فيه: امر بسحبي من حضرة عبد العظيم، وأما غير ميرزا صادق من مؤرخي الإيرانيين وغيرهم فيقولون: ان الشاه أرسل خمسمائة فارس من الجنود فقبضوا عليه وساقوه إلى قم، وصحبه منهم هناك خمسون فارسا إلى كرمانشاه ثم إلى ما وراء الحدود الإيرانية. والذي يلوح ان رواية الخمسمائة الفارس مبالغ فيها مبالغة يراد بها تعظيم امره، والا فلا نظن أن مثل ذلك يحتاج إلى أكثر من عشرة جنود، فان زاد فإلى خمسين، والذي يظهر ان الذين أخرجوه من المشهد هم الستة من أهل البلد وأخذوه من هناك إلى دار الحكومة، ومنها اصحبوه ببعض الجند والله أعلم. ثم أوصلوه إلى خانقين، ومن هناك استلمته الشرطة العثمانية حتى أوصلته إلى بغداد ثم ارسل إلى البصرة. وكان ذلك في سنة ورودنا إلى النجف لطلب العلم وهي سنة 1308. وكتب وهو في البصرة كتابا إلى الميرزا الشيرازي بالعربية الفصيحة - مما يدل على أنه كان قد اتقنها، وذلك دليل علو همته - يستفزه فيه ويستصرخه ويحمسه ويستنجده بأنواع العبارات المهيجة المؤثرة في النفوس، وشاع هذا الكتاب في ذلك الوقت وجاءت نسخته إلى النجف وقرأناه وقرأه الناس، ولكن الميرزا الشيرازي لم يظهر منه شئ في هذا الباب من أجل هذا الكتاب، وهذه صورته:
كتاب السيد جمال الدين للميرزا الشيرازي بسم الله الرحمن الرحيم. حقا أقول: ان هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمدية أينما وجدت وحيثما حلت، وضراعة تعرضها الأمة على نفوس زكية تحققت بها شؤونها كيفما نشأت، وفي اي قطر نبغت، الا وهم العلماء فأحببت عرضه على الكل وان كان عنوانه خاصا.
حبر الأمة، وبارقة أنوار الأئمة، دعامة عرش الدين، واللسان الناطق عن الشرع المبين، الحاج الميرزا حسن الشيرازي صان الله به حوزة الاسلام، ورد به كيد الزنادقة اللئام.
لقد خصك الله بالنيابة عن الحجة الكبرى، واختارك من العصابة الحقة وجعل بيدك أزمة سياسة الأمة بالشريعة الغراء. وحراسة حقوقها بها، وصيانة قلوبها عن الزيغ والارتياب فيها، وأحال إليك من بين الأنام وأنت وارث الأنبياء مهام أمور تسعد بها الملة في دارها الدنيا، وتحظى بها في العقبى، ووضع لك أريكة الرياسة العامة على الأفئدة والنهى، إقامة لدعامة العدل، وإنارة لمحجة الهدى، وكتب عليك بما أولاك به من السيادة على خلقه حفظ الحوزة، والذود عنها والشهادة دونها على سنن من مضى، وان الأمة قاصيها ودانيها، وحاضرها وباديها، ووضيعها وعاليها، قد أذعنت لك بهذه الرياسة السامية الربانية، جاثية على الركب، خارة على الأذقان تطمح نفوسها إليك في كل حادثة تعروها، وتطل بصائرها عليك في كل مصيبة تمسها وهي ترى ان خيرها وسعدها منك، وان فوزها ونجاتها بك، وان أمنها وأمانيها فيك، فإذا لمح منك غض نظر، أو نأيت بجانبك لحظة، وأهملتها وشأنها لمحة، ارتجفت أفئدتها، وانتكثت عقائدها وزغات ابصارها، وانهدت دعائم ايمانها، نعم لا برهان للعامة فيما دانوا، الا استقامة الخاصة فيما أمروا، فان وهن هؤلاء في فريضة أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر، اعتور أولئك الظنون والأوهام ونكص كل على عقبيه مارقا عن الدين القويم، حائدا عن الصراط المستقيم. وبعد هذا وذاك أقول: ان الأمة الإيرانية بما دهمها من عراقيل الحوادث التي آذنت باستيلاء