أول محرم سنة 1288. هذا مجمل امره في الآستانة، وما ذكره سليم العنحوري في شرح شعره المسمى (سحر هاروت) مما يخالف ذلك خلط من الباطل لا شائبة للحق فيه. مال السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراه من مظاهرها ومناظرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا، فاستمالته مساعيه إلى المقام وأجرت عليه الحكومة وظيفة الف قرش مصري كل شهر (1) نزلا أكرمته به لا في مقابلة عمل واهتدى اليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم واستوروا زنده فاورى واستفاضوا بحره ففاض درا وحملوه على تدريس الكتب فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الاسلامي وكانت مدرسته بيته من أول ما ابتدأ إلى آخر ما اختتم ولم يذهب إلى الأزهر مدرسا ولا يوما واحدا نعم كان يذهب اليه زائرا وأغلب ما كان يزوره يوم الجمعة. عظم امر الرجل في نفوس طلاب العلوم واستزجلوا فوائد الأخذ عنه وأعجبوا بدينه وأدبه وانطلقت الألسن بالثناء عليه وانتشر صيته في الديار المصرية ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول فنشطت لذلك الباب واستضاءت بصائر وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وانشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل وما كنا نعرف منهم الا عبد الله فكري باشا وخيري باشا ومحمد باشا وسيد احمد، على ضعف فيه ومصطفى باشا وهبي، على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاء فاما ساجعون في المراسلات الخاصة، واما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها. ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم وأغلبهم احداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم الا من اخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلد المتصلين به، ومنكر ذلك مكابر وللحق مدابر. هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلا للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية، اخذا بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر فيها، على أن القائلين بهذا القول لم يطلقوه، بل قيدوه بضعفاء العقول قصار النظر خشية على عقائدهم من الزيغ، اما الثابتون في ايمانهم فلهم النظر في علوم الأولين والآخرين من موافقين لمذاهبهم أو مخالفين، فلا يزيدهم ذلك الا بصيرة في دينهم وقوة في يقينهم، ولنا في أئمة الملة الاسلامية الف حجة تقوم على ما نقول، ولكن تمكن الحاسدون من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة كانوا يطرقون مجلسه فيسمعون ما لا يفهمون، ثم يحرفون في النقل عنه ولا يشعرون، غير أن هذا كله لم يؤثر في مقام الرجل من نفوس العقلاء العارفين بحاله، ولم يزل شأنه في ارتفاع والقلوب عليه في اجتماع إلى أن تولى خديوية مصر حضرة خديويها المغفور له توفيق باشا، وكان السيد من المؤيدين لمقاصده الناشرين لمحامده، الا ان بعض المفسدين ومنهم (مستر فيفيان) قنصل انكلترا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه برئ منه حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر امره باخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة 1296 وأقام بحيدرآباد الدكن، وفيها كتب هذه الرسالة في نفي مذهب الدهريين، ولما كانت الفتنة الأخيرة بمصر دعي من حيدرآباد إلى كلكتة وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقضى امر مصر وفثأت الحرب الانكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى اي بلد فاختار الذهاب إلى أوروبا، وأول مدينة اصعد إليها مدينة لوندرة أقام بها أياما قلائل ثم انتقل منها إلى باريز وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات وافيناه في أثنائها، ولما كلفته جمعية العروة الوثقى ان ينشئ جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الاسلامية أيدها الله، سألني ان أقوم على تحريرها، فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عددا، وقد اخذت من قلوب الشرقيين عموما والمسلمين خصوصا ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في اعنات من تصل إليهم فيه. ثم بقي بعد ذلك مقيما بأوروبا أشهرا في باريز وأخرى في لندرة إلى أوائل شهر جمادي الأولى سنة 1303، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية اه. وفي تعليق الأمير شكيب أرسلان على حاضر العالم الاسلامي قد زعم (ويلفريد سكافن بلوتت) وهو مما لم يذكره غيره من مترجميه ان جمال الدين ذهب من الهند إلى أمريكا، وانه منها جاء إلى لندرة سنة 1883 قال: وذكر (غولد سيهر) مناقشة جمال الدين مع رنان في امر قابلية الاسلام للعلم، فقال ما يأتي بالحرف:
(وقد فتحت له أشهر الجرائد وأعظمها نفوذا أبواب المراسلة فنشر فيها مقالات ممتعة عظيمة القيمة على السياسة الشرقية التي كانت تتنازعها انكلترة وروسيا، وعلى أحوال تركيا ومصر، وعلى معنى حركة المهدي السوداني. وفي ذلك الوقت جرت بينه وبين أرنست رنان المناظرة التي أساسها محاضرة ألقاها رنان في السور بون على الاسلام والعلم، فجمال الدين الذي أراد تفنيد مزاعم رنان بعدم قابلية الاسلام للتوليد العلمي، وذلك في مقالة في جريدة (الدبا) ترجمت إلى الألمانية. ثم بعد ذلك بقليل عربت محاضرة رنان. - مصحوبة برد من قلم حسن أفندي عاصم) الخ.. وقال الأمير شكيب أيضا: وأول أثر ظهر لجمال الدين في ميدان السياسية هو الحركة التي هبت في أواخر أيام الخديوي إسماعيل باشا، و آلت إلى خلعه من الخديوية، وكان للسيد اليد الطولى فيها، ولما جلس توفيق باشا على كرسي مصر شكر لجمال الدين مساعيه، لكن لم يطل الامر حتى دبت عقارب السعاية في حقه، وجاء من دس إلى الخديوي الجديد ان السيد لم يقف عند هذا الحد، وقد تحدثه نفسه بثورة ثانية وبإقامة حكم جمهوري وما أشبه ذلك، فصدر الامر فجأة بنفي جمال الدين، وأخرج إلى السويس ومنها ذهب إلى الهند، ولم يدخل بعدها مصر. وجرت الحركة