عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الاسلام. ثم عد الذين هاجروا فيها فكانوا عشرة قال فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة وكان عليهم عثمان بن مظعون. ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه لا أهل معه اه وقال محمد بن سعد في الطبقات الكبير: قال محمد بن عمر (الواقدي) هاجر جعفر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ومعه امرأته أسماء بنت عميس وولدت له هناك عبد الله وعونا ومحمدا فلم يزل بأرض الحبشة حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ثم قدم عليه جعفر من أرض الحبشة وهو بخيبر سنة سبع قال محمد بن عمر وقد روي لنا ان أميرهم في الهجرة إلى أرض الحبشة جعفر بن أبي طالب اه وفي تاريخ ابن كثير: ثم إن ابن إسحاق ذكر الخارجين صحبة جعفر - وعدهم ابن كثير - وحسبناهم نحن في تاريخ ابن كثير فكانوا 87 رجلا وامرأة والرجال منهم خاصة 75 والنساء 12 قال ابن إسحاق وكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا أو ولدوا بها ثلاثة وثمانين رجلا ان كان عمار بن ياسر فيهم وهو يشك فيه قال وخرج من بني مخزوم بن يقظة بن مرة أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن محزوم، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن ابن إسحاق ان أبا طالب قال أبياتا للنجاشي يحضه على حسن جوار المسلمين والدفع عنهم:
ليعلم خيار الناس ان محمدا * نظير لموسى والمسيح بن مريم اتانا بهدي مثل ما اتيا به * فكل بأمر الله يهدي ويعصم وانكم تتلونه في كتابكم * بصدق حديث لا حديث المرجم وانك ما تأتيك منا عصابة * بفضلك الا ارجعوا بالتكرم (أقول) وهو صريح في اسلام أبي طالب وفيه أقواء (وروى) ابن إسحاق بسنده عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية أم المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمننا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي كما كنا نؤذى بمكة ولا نسمع شيئا نكرهه اه فلما بلغ ذلك قريشا ارسلوا عمرو بن العاص ليكيد جعفرا وأصحابه عند النجاشي، وأعلم ان عمرو بن العاص سافر إلى الحبشة مرتين بعد البعثة مرة مع عمارة بن الوليد بن المغيرة أخي خالد بن الوليد وهو الذي جاءت به قريش إلى أبي طالب وقالوا جئناك بفتى قريش جمالا ونسبا يكون لك نصره وميراثه وتدفع الينا ابن أخيك نقتله فقال والله ما أنصفتموني تعطوني ابنكم اغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه، ومرة مع عبد الله بن أبي ربيعة (1) وفي المرة الثانية كان المرسل لهما قريش ليكيدا جعفرا وأصحابه اما المرة الأولى فليس في كلام ابن إسحاق ما يدل على أن المرسل لهما قريش أو أنهما ذهبا من قبل أنفسهما ولا ان ذهابهما في اي شئ كان.
وبعض المؤرخين - غاب عني اسمه - صرح بأن سفرهما أولا كان للتجارة، والحاكم في المستدرك وابن عساكر في تاريخه والإمام أحمد وأبو نعيم في الدلائل صرحوا بأنه كان ليكيد جعفرا وأصحابه عند النجاشي، وانا أظن أنه قد وقع اشتباه من بعض المحدثين والمؤرخين فذكروا بدل عبد الله بن أبي ربيعة عمارة بن الوليد، ويمكن ان يكونا ذهبا في المرة الأولى للتجارة ثم بدا لهما بعد ما وصلا إلى الحبشة ان يكيدا المسلمين لكن الظاهر خلافه لما سمعت من تصريح بعض المؤرخين ولما ظهر من ابن إسحاق فلم يشر في قصة عمرو وعمارة إلى أن ارسالهما كان من قبل قريش أو انهما تعرضا لكيد المسلمين ولو كان ذلك واقعا لما أهمله، ونحن نذكر أولا خبر ذهاب عمرو مع عمارة إلى الحبشة ما ذكر فيه انه لكيد المسلمين وما لم يذكر ثم نذكر خبر ذهابه مع عبد الله بن أبي ربيعة لكيد المسلمين.
(اما خبر ذهاب عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى الحبشة) فروى ابن إسحاق في المغازي قال: كان عمارة بن الوليد ابن المغيرة وعمرو بن العاص بن وائل بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجا إلى أرض الحبشة على شركهما وكان عمارة رجلا جميلا تهواه النساء فركبا البحر ومع عمرو بن العاص امرأته فأصابا من خمر لهما فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو قبليني فقال لها عمرو قبلي ابن عمك فقبلته وجعل عمارة يراودها عن نفسها فامتنعت منه. وجلس عمرو على منجاف السفينة يبول فدفعه عمارة في البحر فسبح حتى اخذ بمنجاف السفينة فقال له عمارة والله لو علمت أنك سابح ما طرحتك ولكني ظننت انك لا تحسن السباحة فضغن عمرو عليه وعلم أنه كان أراد قتله فلما وصلا أرض الحبشة كتب عمرو إلى أبيه العاص ان اخلعني وتبرأ من جريرتي وخشي على أبيه ان يتبع بجريرته فمشى العاص إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال إن هذين الرجلين قد خرجا وكلاهما فاتك صاحب شر واني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته فقد خلعته فقالوا وأنت تخاف عمرا على عمارة ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته ولم يلبث عمارة ان دب إلى امرأة للنجاشي وجعل إذا رجع من عندها يخبر عمرا بما كان من امره فيقول عمرو لا أصدقك ان شأن هذه المرأة أرفع من ذلك وهو يعلم صدقه ولكنه كان يريد ان يأتيه بشئ لا يستطاع دفعه ان هو رفع شأنه إلى النجاشي فقال له ان كنت صادقا فقل لها فلتدهنك بدهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره فاني اعرفه وائتني بشئ منه فسألها ذلك فدهنته منه وأعطته شيئا في قارورة فلما شمه عمرو عرفه فسكت عنه حتى اطمأن ودخل على النجاشي فقال أيها الملك ان معي سفيها من سفهاء قريش وأردت ان أعلمك بشأنه وان لا أرفع ذلك إليك حتى أثبته انه قد دخل على بعض نسائك وهذا دهنك قد أعطته إياه وادهن به فلما شمة النجاشي قال صدقت هذا دهني الذي لا يكون الا عند نسائي فدعا بعمارة ودعا نسوة اخر فجردوه من ثيابه (إلى اخر ما ورد في الخبر) هذه رواية ابن إسحاق وليس فيها كما ترى ان سفرهما كان لكيد المسلمين.
وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي موسى قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان ننطلق إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشا فبعثوا إلى عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدايا فقدمنا وقدموا على النجاشي فأتوه بهدية فقبلها وسجدوا له ثم قال عمرو بن العاص ان قوما منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك فقال لهم النجاشي في ارضي قال نعم فبعث الينا، فقال لنا جعفر لا يتكلم منكم أحد انا خطيبكم اليوم فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون من الرهبان جلوس سماطين فقال له عمرو وعمارة انهم لا يسجدون لك فلما انتهينا اليه زبرنا (بدرنا) من عنده من القسيسين والرهبان اسجدوا للملك فقال جعفر لا نسجد الا لله، فقال له النجاشي وما ذاك قال إن الله بعث فينا رسوله وهو الرسول الذي بشر به عيسى بشر