المقدمة الثانية:
لا إشكال في أن الامر المتعلق بشئ كما يكون داعيا إلى إيجاد نفس ذلك الشئ كذلك يكون داعيا إلى إيجاد أجزائه الخارجية و العقلية ومقدماته الخارجية، فإن العبد الذي وجد في نفسه إحدى الدواعي القلبية التي أشرنا إليها، وصار باعتبار ذلك بصدد إطاعة أوامر المولى، كما يوجد متعلق الأمر بداعي الامر المتعلق به بالمعنى الذي يتصور لداعوية الامر، كذلك يوجد مقدماته بنفس هذا الداعي، من دون أن ينتظر في ذلك تعلق أمر بها على حدة. ويكفي في عباديتها ومقربيتها أيضا قصد إطاعة الامر المتعلق بذيها، لكونها في طريق إطاعة الامر المتعلق به، ولا نحتاج في عبادية الاجزاء و المقدمات إلى تعلق أمر نفسي أو غيري بها، فإن لم نقل بوجوب المقدمة تبعا لذيها، ولم يتعلق بها أمر نفسي أيضا، لكفى في عباديتها قصد الامر المتعلق بذيها، بل لو قلنا بوجوب المقدمة وتعلق أمر غيري بها أمكن أن يقال أيضا بعدم كفاية قصده في عبادية متعلقه، لعدم كونه أمرا حقيقيا، بل هو نحو من الامر يساوق وجوده العدم والحاصل:
أن ما اشتهر من أن الامر لا يدعو إلا إلى متعلقه فاسد، فإن الامر كما يدعو إلى متعلقه يدعو إلى جميع ما يتوقف عليه المتعلق أيضا، و المحقق لعباديتها ومقربيتها أيضا نفس الامر المتعلق بذيها، والسر في ذلك أن الداعي الحقيقي على ما عرفت ليس عبارة عن الامر، بل هو عبارة عن الملكة الراسخة النفسانية الداعية إلى الطاعة بنحو الاجمال، والامر محقق لموضوعها من جهة أنها تتوقف على وجود الامر خارجا، وحينئذ فإذا صدر الامر عن المولى متعلقا بشئ له مقدمات فذلك الداعي القلبي بوحدته وبساطته يوجب تحرك عضلات العبد نحو إيجاد متعلق الأمر بجميع ما يتوقف عليه، وكل ما صدر عن إحدى هذه الملكات الحسنة فهو مما يقرب العبد إلى ساحة المولى من غير فرق في ذلك بين نفس متعلق الأمر، وبين أجزائه الغاية موجودة بوجود مستقل ممتاز عن ذي الغاية، أو تكون أمرا انتزاعيا موجودا بنفس وجوده، وعلى الأول فلا فرق أيضا بين أن تكون من المسببات التوليدية التي لا تتوسط الإرادة بينها وبين أسبابها، وبين أن لا تكون كذلك.
ومما ذكرنا يظهر أن في عد الملكات النفسانية دواع للأفعال نحو مسامحة، فإن حب المولى أو الشوق إلى ثوابه أو الخوف من عقابه مثلا ليس علة غائية، بل الذي يترتب على العمل هو حصول محبوب المولى أو حصول ثوابه، أو التخلص من عقابه ونحو ذلك، غاية الأمر ان الأول أمر ينتزع عن نفس العمل، وقد عرفت أنه لا فرق في الداعي بين كونه موجودا بوجود مستقل، وبين غيره. وما اشتهر بينهم من عد الامر داعيا، فلعل مرادهم من ذلك جعل عنوان موافقة الامر داعيا، وهي عنوان ينتزع عن الفعل الخارجي، ويصح عدها غاية له.
ح - ع - م.