المقدمة الأولى:
ما هو الداعي حقيقة إلى طاعة المولى وإتيان ما أمر به، أمر قلبي راسخ في نفس العبد، يختلف بحسب تفاوت درجات العبيد واختلاف حالاتهم وملكاتهم، فمنهم من رسخت في قلبه محبة المولى والعشق إليه، وباعتبار ذلك يصدر عنه وعن جوارحه جميع ما أحبه المولى وجميع ما أمر به.
وبعضهم ممن وجد في قلبه ملكة الشكر وصار بحسب ذاته عبدا شكورا، وباعتبار هذه الملكة تصدر عنه إطاعة أوامر المولى لأجل كونها من مصاديق الشكر. ومنهم من وجد في قلبه ملكة الخوف من عقاب المولى، أو ملكة الشوق إلى ثوابه ورضوانه، أو رسخت في نفسه عظمة المولى وجلاله وكبرياؤه، فصار مقهورا في جنب عظمته، وباعتبار هذه الملكة القلبية صار مطيعا لأوامر مولاه.
وبالجملة: ما يصير داعيا للعبد ومحركا إياه نحو إطاعة المولى هو إحدى هذه الملكات الخمس النفسانية وغيرها من الملكات الراسخة.
وعلى هذا فما اشتهر من تسمية الامر الصادر عن المولى داعيا فاسد جدا، ضرورة أن صرف الامر لا يصير داعيا ومحركا للعبد، ما لم يوجد في نفسه أحد الدواعي الخمسة المذكورة، أو غيرها من الدواعي القلبية المقتضية للإطاعة، كما يشاهد ذلك في الكفار و العصاة.
نعم هنا شي آخر، وهو أنه بعد أن ثبتت للعبد إحدى الملكات القلبية المقتضية لإطاعة المولى، وصار نفسه - باعتبار ذلك - منتظرا لصدور الامر عن المولى، حتى يوافقه ويمتثله، يكون لصدور الامر عن المولى أيضا دخالة في تحقق الإطاعة والموافقة، فإنه المحقق لموضوع الطاعة ويصير بمنزلة الصغرى لتلك الكبريات. فالداعي حالة بسيطة موجودة في النفس مقتضية للإطاعة بنحو الاجمال، و الامر محقق لموضوعها وموجب لتحريك الداعي القلبي وتأثيره في تحقق متعلقه، وما هو الملاك في عبادية العمل ومقربيته إلى ساحة المولى هو صدوره عن إحدى هذه الدواعي والملكات الحسنة، و ليس للامر، بما هو أمر، تأثير في مقربية العمل أصلا، فان المحقق لعبادية العمل هو صدوره عن داع إلهي، وقد عرفت أن ما هو الداعي حقيقة عبارة عن الملكة القلبية، نعم يمكن بنحو المسامحة تسمية الامر أيضا داعيا من جهة دخالته في تحقق الطاعة عمن وجد في نفسه إحدى الملكات القلبية، وما ذكرنا واضح لمن له أدنى تأمل. [1] [1] أقول: الظاهر أن داعي الفعل عبارة عن علته الغائية، سواء كانت غاية نهائية محبوبة بالذات أو كانت غاية متوسطة واقعة في سلسلة العلل لما هو محبوب بالذات، وبعبارة أخرى الداعي عبارة عما يتأخر عن الفعل بحسب الوجود ويتقدم عليه بحسب التصور، بحيث يتولد من إرادته إرادة الفعل، ولا فرق في ذلك بين أن تكون