واتفق ان الفرات زاد فمنع البركمونس من العبور فعدل إلى الشام ونزل على سميساط فافتتحها في بعض يوم ونزل على رعبان ونفر اليه سيف الدولة فيمن بقي معه وامر أبا فراس بالتقدم فكان أبو فراس أول من لحق العسكر وأحسن البلاء وثبت يقاتل حتى استحر القتل وكثر الأسر في أصحابه ثم انصرف بباقيهم حتى خلصهم واسر في هذه الوقعة اخواه ودق رمحين في تريبق الجزري رئيس الحرزيم وأسر تريبق بعض أصحاب أبي فراس فأرى تريبق ذلك الأسير الجراح التي فيه من أبي فراس وقال له أكتب إلى صاحبك أبي فراس وقل له مثلك لا يتسمى في مثل ذلك اليوم ويعرفه الناس وذلك لأن أبا فراس كان حينما يطعن أو يضرب تريبق يتكنى ويتسمى ويقول خذها وانا فلان على عادة العرب في الحروب فأراد تريبق نصحه وان كان عدوه بان من كان مثله رئيسا شجاعا واترا لا يتسمى في مثل ذلك اليوم الذي هو فيه في عدد قليل وعدوه في عدد كثير فيعرفه الناس ويجتهدوا في قتله أو اسره متى عرفوه فقال أبو فراس في ذلك بيتين جميلين وكان اعتذاره فيهما عن تسمية اعتذار شعريا طريفا:
يعيب علي ان سميت نفسي * وقد اخذ القنا منهم ومنا فقل للعلج لو لم اسم نفسي * لسماني السنان لهم وكنى أي لو لم اتكن لعرفوني بطعني وضربي.
وسار سيف الدولة لغزو الروم واستخلفه على الشام فيما ذكره ابن خالويه فلم ترض نفس أبي فراس بالاخلاد إلى الراحة والدعة وأراد ان يكون شريك سيف الدولة في كل غزواته ومواسيا له بنفسه في السراء والضراء وغلظ عليه القعود عن المسير معه فكتب اليه من قصيدة يتألم من تأخره عنه يسأله الاذن له في صحبته في ذلك الغزو فقال:
تضن بالحرب عنا ضن ذي بخل * ومنك في كل حال يعرف الكرم لا تبخلن على قوم إذا قتلوا * اثنى عليك بنو الهيجاء دونهم يقول فيها طالبا من سيف الدولة ان يأذن له في المسير معه ومبينا له ان الشام محروس بهيبته من العدو غاب عنه أو حضر:
قالوا المسير فهز الرمح عامله * وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم وطالبتني بما ساء العداة - وقد * عودتها ما تشاء - الذنب والرخم حقا لقد ساءني امر ذكرت له * لولا فراقك لم يوجد له ألم لا تشغلني بأمر الشام احرسه * ان الشام على من حله حرم وان للثغر سورا من مهابته * صخوره من أعادي أهله القمم لا يحرمني سيف الدين صحبته * فهي الحياة التي تحيا بها النسم وما اعترضت عليه في أوامره * لكن سألت ومن عاداته نعم وكتب اليه وقد آلمه التأخر عن الغزو من قصيدة:
أطفأ حسرتي وتقر عيني * ولم أوقد مع الغازين نارا أظن الصبر ابعد ما يرجى * إذا ما الجيش بالسارين سارا وكان أبو فراس يعتز بعشيرته وتهز أمجاد بني حمدان صميم تقدمه فيكثر من المباهاة بهم وبوقائعهم وكلهم أمير فارس أديب وقد ذكرنا شيئا من ذلك عند ذكر أسرته. فهو لذلك يحرص على لم شعث العشيرة ودوام صلة الرحم. وقد كانت بين أبي تغلب بن ناصر الدولة وأخيه حمدان شحناء وحرب فحاصر الأول الثاني بالجزيرة. فاجتمع لذلك الأمراء في الجزيرة فقال أبو فراس من قصيدة تعبر عن شعور صادق ورحم بر. هذا مع أن ناصر الدولة كان قد قتل أباه والأحقاد تورث كما تورث المحبة قال:
المجد بالرقة مجموع * والفضل مرئي ومسموع ان بها كل عميم الندى * يداه للجود ينابيع وكل مبذول القرى بيته * بيت على العلياء مرفوع لكن اتاني خبر رائع * يضيق عنه السمع والروع (1) ان بني عمي وحاشاهم * شعبهم بالخلف مصدوع بنواب فرق ما بينهم * واش على الشحناء مطبوع عودوا إلى أحسن ما بينكم * سقتكم الغر المرابيع لا يكمل السؤدد في ماجد * ليس له عود ومرجوع أنبذل الود لأعدائنا * وهو عن الإخوة ممنوع ونصل الأبعد من غيرنا * والنسب الأقرب مقطوع لا يثبت العز على فرقه * غيرك بالباطل مخدوع ومن قوله في لم شعث العشيرة والحنو عليها:
عطفت على غنم بن تغلب بعدما * تعرض مني جانب لهم صلد أفضت عليها الجود من قبل هذه * وأفضل منه ما تؤمله بعد ولا خير في هجر العشيرة لامرئ * يروح على لم العشيرة أو يغدو ولكن دنو لا يولد جرأة * وهجر رفيق لا يصاحبه زهد نباعدهم طورا كما نبعد العدى * ونكرمهم حينا كما يكرم الوفد وسائر أشعاره لا تكاد تخلو قصيدة منها من ذكر الحرب والتغني بذكر المواقع تغني القائد المقدام ومن أحب شيئا أكثر ذكره. فقد كان الطعن والضرب واعزاز قومه ونفسه حاجة نفسية في شخصيته تقتضيها حيويته في رجولته وفروسيته وكان يزدهيه ويبهجه ما في غزواته المظفرة من اجر الدنيا والدين لأن أبا فراس كان يحمل مع فروسيته ورجولته عقيدة دينية ثابتة واضحة لا شائبة فيها. وحتى في أغراضه الشعرية الخاصة كان خاطر الحرب يأخذ عليه حسه فلا يتمالك ان يستطرد إلى ذلك من خلال الغزل والنسيب ونحوهما. فهو عند ذكره بعض أهله وقد شيعها إلى الحج يذكر الحرب والطعن والضرب مع عدم المناسبة بينها وبين ما قصد له. فبينما هو يبتدئ بالغزل حسب العادة المتبعة فيقول:
أيحلو لمن لا صبر ينجده صبر * إذا ما انقضى فكر ألم به فكر أمعنية بالعذل رفقا بقلبه * أيحمل ذا قلب ولو أنه صخر عذيري من اللائي يلمن على الهوى * أما في الهوى لو ذقن طعم الهوى عذر اطلن عليه النوم حتى تركنه * وساعته شهر وليلته دهر ومنكرة ما عاينت من شجونه * ولا عجب ما عاينته ولا نكر ويحمد في الغضب البلى وهو قاطع * ويحسن في الخيل المسومة الضمر تذكرني نجدا ومن حل ارضها * فيا صاحبي نجواي هل ينفع الذكر إذا به يذكر الحرب ويفتخر بالشجاعة وعلو الهمة فيقول:
تطاولت الكثبان بيني وبينه * وباعد فيما بيننا البلد القفر مفاوز لا يعجزن صاحب همة * وان عجزت عنها الغريرية (2) الصبر كان سفينا بين فيد وحاجز * يحف به من آل قيعانه بحر