الحروب يقول قولا صادقا يطابق الفعل ولا يكون كمن يقول ما لا يفعل ويفخر بما ليس فيه. فنمت شخصيته واطمأنت خطوطها العامة في وضوح وصفاء، لذلك كان بعيدا كل البعد عن أن يحمل الحقد والنقمة على الحياة وبنى البشر فلم يقل كما قال المتنبي المنكوب في صميم نفسه بما لم ينكب به أبو فراس:
ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم نعم لقد قال: (إذ مت ظمآنا فلا نزل القطر). ولكنه لم يمت ظمآن بل شرب حتى ارتوى رحمه الله. وتبرم بالزمان والاخوان شأن أمثاله لكنه لم يخرج في ذلك إلى ما خرج اليه المتنبي. ويظهر تبرمه بالزمان والإخوان في كثير من شعره كقوله:
تناساني الأصحاب الا عصابة * ستلحق بالأخرى غدا وتحول ومن ذا الذي يبقى على العهد انهم * وان كثرت دعواهم لقليل اقلب طرفي لا أرى غير صاحب * يميل مع النعماء حيث تميل وصرنا نرى ان المتارك محسن * وان صديقا لا يضر وصول تصفحت أحوال الزمان فلم يكن * إلى غير شاك للزمان وصول وليس زماني وحده بي غادر * ولا صاحبي دون الرجال ملول أكل خليل هكذا غير منصف * وكل زمان بالكرام بخيل نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة * أجاب إليها عالم وجهول وقبلي كان الغدر في الناس شيمة * وذم زمان واستلام خليل تلك شخصية أبي فراس. قل وجودها في غير بني حمدان في ذلك العصر الذي عاش فيه أبو فراس والذي توالت فيه الفتن والخطوب على الاسلام والعرب متسلسلة منذ اليوم الذي بدا فيه فساد الدين والدنيا في بلاد العرب والاسلام فقل اليقين والأمان وعصفت بالنفوس عواصف المحن والخطوب الخارجية والداخلية. فلم يكن غريبا ان يتفوق أبو فراس ويتبوأ مركز الامارة والقيادة عن جدارة واستحقاق لأن شخصية تستطيع ان تخرج من خلال هذه الغمرات النفسية خالصة الجوهر صافية السجايا والخلايا ممثلة روح التضحية واليقين والفروسية كما كانت في صدر الاسلام لهي شخصية عبقرية.
وقد جمع أبو فراس ألوانا صادقة من رسوم شخصيته تلك فكانت صورة واضحة رائعة له في احدى قصائده التي أرسلها إلى ابن عمه سيف الدولة من أسر القسطنطينية: وقد بلغه عن سيف الدولة ما أنكره كما في الديوان وقال ابن خالويه امتنع الأمير سيف الدولة من اخراج ابن أخت الملك الا بفداء عام وحمل الأمير أبو فراس إلى القسطنطينية فقال يعاتب سيف الدولة. وهذه القصيدة من غرر شعر أبي فراس ولذلك أوردناها بتمامها وهي:
اما لجميل عندكن ثواب * ولا لمسئ عندكن متاب لقد ضل من تحوي هواه خريدة * وقد ذل من تقضي عليه كعاب ولكنني والحمد لله حازم * أعز إذا ذلت لهن رقاب ولا تملك الحسناء قلبي كله * وان ملكتها روقة وشباب واجري ولا أعطي الهوى فضل مقودي وأهفو ولا يخفى علي صواب إذا الخل لم يهجرك الا ملالة * فليس له الا الفراق عتاب إذا لم أجد في بلدة ما أريده * فعندي لأخرى عزمة وركاب وليس فراق ما استطعت فان يكن * فراق على حال فليس اياب صبور ولو لم تبق مني بقية * قؤول ولو أن السيوف جواب وقور وأحوال الزمان تنوشني * وللموت حولي جيئة وذهاب والحظ أهوال الزمان بمقلة * بها الصدق صدق والكذاب كذاب بمن يثق الإنسان فيما ينوبه * ومن أين للحر الكريم صحاب وقد صار هذا الناس الا أقلهم * ذئابا على أجسادهن ثياب تغابيت عن قومي فظنوا غباوتي * بمفرق أغبانا حصى وتراب ولو عرفوني حق معرفتي بهم * إذا علموا اني شهدت وعابوا وما كل فعال يجازى بفعله * ولا كل قوال لدي يجاب ورب كلام مر فوق مسامعي * كما طن في لوح الهجير ذباب إلى الله أشكو اننا بمنازل * تحكم في آسادهن كلاب تمر الليالي ليس للنفع موضع * لدي ولا للمعتفين جناب ولا شد لي سرج على ظهر سابح * ولا ضربت لي بالعراء قباب ولا برقت لي في اللقاء قواطع * ولا لمعت لي في الحروب حراب ستذكر ايامي نمير وعارم * وكعب على علاتها وكلاب انا الجار لا زادي بطئ عليهم * ولا دون مالي في الحوادث باب ولا اطلب العوراء منهم أصيبها * ولا عورتي للطالبين تصاب وأسطو وحبي ثابت في قلوبهم * واحلم عن جهالهم واهاب بني عمنا (1) لا تنكروا الود اننا * شداد على غير الهوان صلاب بني عمنا ما يصنع السيف في الوغى * إذا فل منه مضرب وذباب بني عمنا نحن السواعد والظبا * ويوشك يوما ان يكون ضراب وان رجالا ما ابنهم كابن أختهم * حريون ان يقضي لهم ويهابوا (2) فعن اي عذر ان دعوا ودعيتم * أبيتم بني أعمامنا وأجابوا (3) وما أدعي ما يعلم الله غيره * رحاب علي للعفاة رحاب وأفعاله بالراغبين كريمة * وأمواله للطالبين نهاب ولكن نبا منه بكفي صارم * واظلم في عيني منه شهاب وأبطأ عني والمنايا سريعة * وللموت ظفر قد أطل وناب فإن لم يكن ود قريب نعده * ولا نسب دون الرجال قراب فأحوط للاسلام ان لا يضيعني * ولي عنه فيه حوطة ومناب ولكنني راض على كل حالة * ليعلم اي الحالتين صواب وما زلت ارضى بالقليل محبة * لديه وما دون الكثير حجاب واطلب ابقاء على الود ارضه * وذكري مني في غيرها وطلاب كذاك الوداد المحض لا يرتجى له * ثواب ولا يخشى عليه عقاب وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع * وفي كل يوم لقية وخطاب فكيف وفيما بيننا ملك قيصر * وللبحر حولي زخرة وعباب امن بعد بذل النفس فيما تريده * أثاب بمر العتب حين أثاب فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب