ويناظره الدمستق في أمور الدين فيقول:
اما من أعجب الأشياء علج * يعرفني الحلال من الحرام وقال في بعض ما قاله وهو في الأسر:
وان فتى لم يكسر الأسر قلبه * وخوض المنايا حده لعجيب أما سائر اخباره فكلها تدل على ما في شخصيته من ذلك الغنى النفسي.
عرض سيف الدولة يوما خيوله وبنو أخيه حضور فاختار كل واحد منهم فرسا منها وامسك أبو فراس، وسيف الدولة يريد منه ان يفعل مثل فعلهم فلا يفعل وتأبى نفسه من ذلك ويجده حطا من قدره ويرى نفسه أجل من أن يطمع في اخذ جواد من خيل سيف الدولة هذا وسيف الدولة ابن عمه ومربيه وصهره واتصاله به أشد من اتصال بني أخيه فيحدث ذلك وجدا في نفس سيف الدولة عليه ويعاتبه فلا يعتذر ويجيبه بالترفع عن ذلك ويقول:
غيري يغيره الفعال الجافي * ويحول عن شيم الكريم الوافي لا ارتضي ودا إذا هو لم يدم * عند الجفاء وقلة الإنصاف تعس الحريص وقل ما يأتي به * عوضا عن الالحاح والالحاف ان الغني هو الغني بنفسه * ولو أنه عاري المناكب حافي ما كل ما فوق البسيطة كافيا * وإذا قنعت فكل شئ كافي ويعاف لي طمع الحريص فتوتي * ومروتي وقناعتي وعفافي ما كثرة الخيل الجياد بزائدي * شرفا ولا عدد السوام الضافي خيلي وان قلت كثير نفعها * بين الصوارم والقنا الرعاف ومكارمي عدد النجوم ومنزلي * مأوى الكرام ومنزل الأضياف لا اقتني لصروف دهري عدة * حتى كأن صروفه احلافي شيم عرفت بهن مذ انا يافع * ولقد عرفت بمثلها اسلافي وبذل ملك الروم المفاداة لأبي فراس مفردا فكره الأمير النبيل ان يختار نفسه على المسلمين وشرع في مفاداة جميع الأسرى وضمن المال وخرج بهم كما يأتي عند ذكر اسره. ولقي الروم وهم ألف بسبعين من أصحابه لا يرتضيهم لأنهم كانوا من الخدم والأتباع خرج بهم إلى الصيد فأسر كما يدل عليه قوله من قصيدة أرسلها إلى سيف الدولة أول ما أسر ولا يعلم أن هذا هو الأسر الأول أو الثاني:
ولو لم تثق نفسي بمولاي لم أكن * لأوردها في نصره كل مورد ولا كنت القى الألف زرقا عيونها * بسبعين فيها كل اشام انكد (1) ويدل شعره في تلك القصيدة وغيرها على أنه كان يمكنه الهرب أو الانحياز عن الروم فلم يفعل حيث يقول:
يقولون جانب. عادة ما عرفتها * شديد على الإنسان ما لم يعود فقلت اما والله لا قال قائل * شهدت له في الخيل الأم مشهد ولكن سألقاها فاما منية * هي الظن أو بنيان عز مؤبد ولم أر ان الدهر من عدد العدى * وان المنايا السود ترمين عن يد فهو يأنف من الفرار حتى في ساعة الخطر التي لا يتردد كثير من الشجعان والأشراف في الفرار عندها كما فعل الحارث بن هشام فإنه فر يوم بدر وكان مع المشركين واعتذر عن فراره فقال:
الله يعلم ما تركت قتالهم * حتى علوا فرسي بأشقر مزبد وعلمت اني ان أقاتل مفردا * اقتل ولا يضرر عدوي مشهدي ففرت عنهم والأحبة فيهم * طمعا لهم بعقاب يوم مرصد وكأنما كان لهذا الموقف الذي وقفه أبو فراس وعرض نفسه فيه للأسر مع امكان الفرار في شعره أكثر من مرة وأشار إلى كثرة تحدث الناس به ولومهم إياه وتفنن بالاعتذار عنه. قال من قصيدة:
ألام على التعرض للمنايا * ولي سمع أصم عن الملام وقال من قصيدة وكأنما ازدهاه وأبهجه تكاثر اللوام عليه لوما يشعر بحرص الناس عليه وضنهم به:
يقولون لي أقدمت في غير مقدم * وأنت امرؤ ما حنكته التجارب فقلت لهم لو لم الاق صدورها * تناولني بالذم منهم عصائب تكاثر لوامي على ما أصابني * كان لم تنب الا بأسري النوائب يقولون لم ينظر عواقب امره * ومن لم يعن تجري عليه العواقب ألم يعلم الذلان (2) ان بني الوغى * كذاك سليب بالرماح وسالب وان وراء الحزم فيها ودونه * مواقف تنسى عندهن التجارب أرى ملء عيني الردى وأخوضه * إذ الموت قدامي وخلفي المقانب وقوله:
تجشمت خوف العار أعظم خطة * وأملت نصرا كان غير قريب رضيت لنفسي: كان غير موفق * ولم ترض نفسي كان غير نجيب أي رضيت ان يقال عني كان غير موفق في رأيهم ولم ترض نفسي ان يقال عني كان غير نجيب. وقال من قصيدة:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى * فقلت هما أمران أحلاهما المر ولكنني امضي لما لا يعيبني * وحسبك من أمرين خيرهما الأسر يقولون لي بعت السلامة بالردى * فقلت اما والله ما نالني خسر وحكى ابن خالويه عن أبي فراس أنه قال: طلب ملك الروم قسطنطين بن لاون الهدنة من سيف الدولة لما كثرت وقائعه بالروم واتصلت غزواته فأبى الا بشروط قد بعد عهد الروم بمثلها فعند ذلك أراد ملك الروم ان يظهر لسيف الدولة قوته فهادن ملك الغرب وصرف من كان في جهته من العساكر لأن نصارى الغرب وملوكهم لم يكونوا مع ملك القسطنطينية على وفاق وهادن أيضا ملك البلغار والروس والترك والإفرنجة وسائر الأجناس واستنجدهم على حرب سيف الدولة وبعث عسكرا عظيما بينهم رجل يسمى البركمونس وهو أخو الملكة زوجته وابن رومانوس الملك قبله وانفق من الأموال ما يعظم قدره حتى قيل إنه اخرج اثني عشر ألف عامل لحفر الخندق حول عسكره يريد بذلك ان يقهر سيف الدولة أو يحمله على قبول الهدنة بالشروط التي يريدها ملك الروم وسار القائد متوجها إلى ديار بكر وبلغ سيف الدولة خبره فجهز العساكر إلى ديار بكر واقام هو في غلمانه