إذا صح منك الود فالكل هين * وكل الذي فوق التراب تراب في هذه القصيدة ترى شخصية أبي فراس واضحة حتى في غزلها الذي كان فيه صادقا لا جاريا في استهلال القصيدة به على سنة الشعراء الأقدمين فحسب. فهو يمثل غزل الرجل الكبير والأمير الأبي الذي (لا تملك الحسناء كل قلبه) والذي (يهفو ولكن لا يخفى عليه صواب) ولا شك بان ما ينتابه فيها من حس الألم والتبرم بالاخوان وعتاب سيف الدولة لا ينتاب الا نفسا كالتي وصفناها.
وقد أولع أبو فراس في شعره بذكر الحرب والطعن والضرب في سبيل العز والمجد فمن بديع شعره في ذلك قوله:
لا عز الا بالحسام المخذم * وضراب كل مدجج مستلئم وقراع كل كتيبة بكتيبة * ولقاء كل عرموم بعرموم ولقد رضعت من الزمان لبانه * وعرفت كل معوج ومقوم وقطعت كل تنوفة لم يلقها * قدم ولم تقرع بباطن منسم وأهنت نفسي للرماح وانه * من لم يهن بين القنا لم يكرم ورأيت عمري لا يزيد تأخري * فيه ولا يفنيه فضل تقدمي لا تكاد تقرأ خبرا من اخبار أبي فراس ولا قصيدة من شعره فلا تجد اثرا يروعك من فروسيته وفتوته. وفي كل حادثة من حوادث أيامه اثر من ذلك. قال ابن خالويه غدا أبو فراس يتصيد في خيل يسيرة فأحدقت به الخيل (يعني خيل الروم) من كل جانب في عدد كثير فلم يزل يقاتل حتى كشفهم واعتنق فارسهم واسر عدة منهم فكتب إلى سيف الدولة:
الا من مبلغ سروات قومي * وسيف الدولة الملك الهماما باني لم أدع فتيات قومي * إذا حدثن جمجمن الكلاما شرت ثناءهن ببذل نفسي * ونار الحرب تضطرم اضطراما ولما لم أجد الا فرارا * أشد من الحمام أو الحماما حملت على ورود الموت نفسي * وقلت لصحبتي موتوا كراما وعدت بصارم ويد وقلب * حمتني ان أضام وان الاما آلفهم وانشرهم كأني * بها نعما اطرد أو نعاما ومدعو إلى المران لما * رأى أن قد تذمم واستلاما عقدت على مقلده يميني * وأعفيت المثقف والحساما وهل عذر وسيف الدين ركني * إذا لم اركب الخطط العظاما واقفو فعله في كل امر * واجعل فضله ابدا اماما وقد أصبحت منتسبا اليه * وحسبي ان أكون له غلاما أراني كيف اكتسب المعالي * وأعطاني على الدهر الذماما ورباني ففقت به البرايا * وانشأني فسدت به الأناما فأبقاه الاله لنا طويلا * وزاد الله نعمته دواما وما أجمل ما يتمدح به الفارس الفتى وهو في عنفوان الشباب يحارب ويخاطر بنفسه حتى لا يدع فتيات قومه إذا حدثن عنه أخذهن الخجل من فراره فجمجمن الكلام بل يدعهن يتباهين بمقامه. ثبت أبو فراس في هذه المرة فلم يقدر عليه وثبت في المرة الثانية الآتية فاسر ولكنه في المرتين لم يكن نادما على الفرار. وكان الروم كانوا يترصدونه ويغتنمون فرصة خروجه للصيد ليغتالوه.
وهو إذا ظفر باعدائه من قبائل العرب هزه مرأى احدى مخدراتهم وهي تتوسل اليه ان يصفح ويعفو فلقيها بالجميل ووهب لها ما حازه الجيش وترك نساء الحي مصونات محجبات كما قال:
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها * فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر وهبت لها ما حازه الجيش كله * ورحت ولم يكشف لأبياتها ستر وهو في ايقاعه ببني جعفر حين رماه النساء بأنفسهن هزته أريحية الفتوة فكان عند ظن (بنيات عمه) به في الصفح والعفو وحفظ الحرم فاطلق لهن الأموال والأسرى ولم يكتف بذلك بل كلف نفسه غرم ما فقد من المال، وارسل هذه الأبيات الجميلة التي تمثل روح الفتوة عند أبي فراس أصدق تمثيل وأروعه. قال من قصيدة:
ولما أطعت الجهل والغيظ ساعة * دعوت بحلمي أيها الحلم اقبل بنيات عمي هن ليس يرينني * بعيد التجافي أو قليل التفضل شفيع النزاريات غير مخيب * وداعي النزاريات غير مخذل فأصبحت في الأعداء اي ممدح * وان كنت في الأصحاب اي معذل ففي هذا الشعور تجاه النساء اللائذات به وفي هذا الاعتزاز يجبر كسرهن وحمايتهن أريحية الرجولة والفتوة.
وفي قصيدته هذه يقول أيضا في ايقاعه ببني جعفر ذاكرا في قتلهما من بني جعفر:
مضى فارس الحيين زيد بن زمعة * ومن يدن من نار الوقيعة يصطل وقرم بني البنا تميم بن عامر * فتيان طعانان في كل جحفل ولو لم تفتني سورة الحرب فيهما * جريت على رسم من الصفح أول وعدت كريم العفو والبطش فيهما * احدث عن يوم أغر محجل وتراه قد اعترف بشجاعتهما وفضلهما اعتراف الخصم الشريف وبتأسف لحيلولة سورة الحرب دون كريم العفو عنهما فاصطليا بنار الوقيعة.
وصفح عن بني كلاب فقال معربا عن أخلاقه الفاضلة وحبه العفو ومتمدحا بذلك وكرره في شعره مرارا:
أفر من السوء لا أفعله * ومن موقف الضيم لا اقبله وقرب القرابة ارعى له * وفضل أخي الفضل لا أجهله وابذل عدلي للأضعفين * وللشامخ الأنف لا أبذله وأحسن ما كنت بقيا إذا * أنالني الله ما آمله وقد علم الحي حي الضباب * واصدق قيل الفتى أفضله بأني كففت واني عففت * وان كره الجيش ما أفعله وقال في ايقاعه ببني كلاب وصفحه عنه من قصيدة:
لي منة في رقاب الضباب * وأخرى تخص بني جعفر فلما سمعت ضجيج النساء * ناديت حار الا اقصر أحارث من صافح غافر * لهن إذا أنت لم تغفر وقال في مثل ذلك:
تسمع في بيوت بني كلاب * بني البنا تنوح علي تميم بكرهي ان حملت بني أبيه * وأسرته على الناي العظيم رجعت وقد ملكتهم جميعا * إلى الأعراق والأصل الكريم