ب - إنه فرق بين ما نحن فيه وبين مسألة العموم والخصوص من جهة أخرى أيضا، وهي أن المعنى المجازي - فيما نحن فيه - أمر واحد شخصي، وهو الندب وقد كثر استعمال الصيغة فيه، فيوجب أنس اللفظ به، وهذا بخلاف مسألة العموم والخصوص، فإن كل لفظ من ألفاظ العموم له معنى حقيقي وهو جميع الافراد ومعان كثيرة مجازية بعدد ما يتصور له من المعاني الخاصة، فقولك: (أكرم العلماء) مريدا به جميع العلماء غير زيد استعمال في معنى مجازي، وإذا أردت به جميعهم غير بكر فقد استعملته في معنى مجازي آخر، و هكذا إذا أردت به جميعهم غير خالد، وكذا إذا أردت به جميعهم غير اثنين أو ثلاثة.
فإن المقصود في قولهم: إن العام مجاز فيما بقي، ليس مفهوم (ما بقي)، لعدم استعماله فيه، بل مصاديق (ما بقي)، وهي في غاية الكثرة.
ولا يقاس مجموع المجازات بالنسبة إلى المعنى الحقيقي، لان المعنى المجازي إنما يعادل المعنى الحقيقي ويكافئه من جهة أنس اللفظ به، واللفظ لا يستعمل في عنوان (مجموع المجازات)، بل يستعمل في كل واحد من المجازات بخصوصه، وإذا وازنا كل واحد من المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي وجدنا استعماله في المعنى الحقيقي أكثر من استعماله في كل واحد من المعاني المجازية بمراتب، فأنس اللفظ بالمعنى الحقيقي أيضا أكثر من أنسه بكل منها بدرجات.
هذا كله بناء على ما اختاره صاحب المعالم من كون صيغة الامر موضوعة للطلب الوجوبي، وأما بناء على ما حققناه فلا يرد إشكال صاحب المعالم، فان الصيغة على ما قلناه قد وضعت لانشاء نفس الطلب المطلق، من غير تقيد بالوجوب أو الاستحباب، غاية الأمر أن الطلب إن لم يقارنه شي أو قارنته المقارنات الشديدة كان منشأ لانتزاع الوجوب، وإن قارنه الاذن في الترك كان منشأ لانتزاع الندب.
وكيف كان فالطلب في الوجوب والاستحباب شي واحد وحقيقة فاردة. واللفظ كلما استعمل فقد استعمل في نفس معناه الحقيقي، أعني نفس الطلب الانشائي، لا في الطلب بقيد كونه وجوبا أو ندبا، و على هذا فقول صاحب المعالم: إنه شاع استعمال الامر في الندب غير تام، فان اللفظ في الأوامر الندبية أيضا يستعمل في نفس الطلب و الحكم بالاستحباب وعدم استحقاق العقاب على مخالفته إنما هو من جهة اقتران الطلب بالاذن في الترك لا من جهة كونه مفادا لصيغة الامر، وحينئذ ففي أي مورد أحرزنا الاذن في الترك حكمنا بالاستحباب شاع أو ندر، وأما إذا لم نحرز ذلك وأحرزنا وجود صرف الطلب، فالعقل يحكم بأن من خالفه يستحق العقاب، وليس معنى هذا الحكم إلا حكمه بوجوب الفعل، وقد ذكرنا أن الملاك في تحصل