فلما سمعا هذا الابتداء أسقطاها فسألهما استتمام النظر فيها فمرا بقوله.
وركب كأطراف الأسنة عرسوا * على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره * وليس عليهم أن تتم عواقبه فاستحسنا هذين البيتين وأبياتا اخر منها وهي:
وقلقل نأي من خراسان جاشها * فقلت اطمأني انضر الروض عازبه إلى سالب الجبار بيضة ملكه * وآمله غاد عليه فسالبه فعرضا القصيدة على عبد الله وأخذا له ألف دينار (اه) وفي هبة الأيام حدث محمد بن العباس اليزيدي قال لما شخص أبو تمام إلى عبد الله بن طاهر وهو بخراسان ومدحه بهذه القصيدة انكر عليه أبو العميثل قوله (هن عوادي يوسف وصواحبه) وقال لأبي تمام لم لا تقول ما يفهم فقال لأبي العميثل لم لا تفهم ما يقال فاستحسن منه هذا الجواب على البديهة وفي الموازنة ان أبا العميثل وأبا سعيد لما أوصلا اليه الجائزة قالا له لم تقول ما لا يفهم فقال لهما لما لا تفهمان ما يقال فكان هذا مما استحسن من جوابه. وفي الأغاني عن جماعة من مشايخه وأصحابه قالوا حدثنا عبد الله بن عبد الله بن طاهر وفي أخبار أبي تمام للصولي حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال لما قدم أبو تمام إلى خراسان اجتمع الشعراء اليه فقالوا نسمع شعر هذا العراقي وسألوه ان ينشدهم فقال قد وعدني الأمير أن انشده غدا وستسمعوني فلما دخل على عبد الله أنشده:
هن عوادي يوسف وصواحبه * فعز ما فقدما أدرك السؤل طالبه (1) فلما بلغ إلى قوله:
وقلقل نأي من خراسان جاشها * فقلت اطمأني أنضر الروض عازبه (2) وركب كاطراف الأسنة عرسوا * على مثلها والليل تسطو غياهبه (3) لأمر عليهم ان تتم صدوره * وليس عليهم أن تتم عواقبه (4) صاح الشعراء بالأمير أبي العباس ما يستحق مثل هذا الشعر غير الأمير أعزه الله وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي لي عند الأمير أعزه الله جائزة وعدني بها وقد جعلتها لهذا الرجل جزاء عن قوله للأمير فقال له الأمير بل نضعفها لك ونقوم له بما يجب له علينا فلما فرع من القصيدة نثر عليه ألف دينار فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئا فوجد عليه عبد الله وقال يترفع عن بري ويتهاون بما أكرمته به فلم يبلغ ما أراده منه بعد ذلك (اه) وكأن أبا تمام استقلها فلم يمسها.
وهنا أمور تستلفت النظر (أولا) انه نثر عليه ألف دينار نثرا ولم يدفعها اليه في بدرة ولا وضعها في حجره وذلك لتظهر للناس بمظهر أروع واعجب فقد كان الامراء يفتخرون بمثل ذلك وهم انما يعطون أموال المسلمين لمن يمدحهم من الشعراء بالأكاذيب وبما ليس فيهم وربما كان في فقراء المسلمين الذين لهم حقوق في بيوت الأموال كثير ممن لا يجدون القوت (ثانيا) ان أبا تمام استقل الألف الدينار - وهي جائزة سنية - ورغب عنها ولم يمسها حتى لقطها الغلمان وأوجب ذلك سخط ابن طاهر عليه وهذا يدل على أن أبا تمام كان متقدما عند الامراء والملوك تقدما لا مزيد عليه ولذلك يرى أن الألف الدينار قليلة في حقه وكان يطمع في اضعافها ولو لم تكن له تلك المكانة عند الناس لما وجد من نفسه ذلك فالمتنبي وهو في الدرجة العالية بين الشعراء رضي قبل أن يشتهر بدينار واحد جائزة لقصيدته حتى سميت الدينارية (ثالثا) هؤلاء الغلمان التقطوا الدنانير لأنفسهم بمرأى من ابن طاهر ولم يحفظوها لأبي تمام وهذا يدل على ما كان عليه ابن طاهر من البذخ والسرف والتوسعة على غلمانه فهم كانوا يعتقدون سروره بالتقاطهم لها والا لما التقطوها وهذا حسن لو كان هذا المال ماله لا من بيت مال المسلمين ولكن هؤلاء الامراء كانوا يرون ما بيدهم من بيوت الأموال ملكا طلقا لهم ليس لأحد سواهم فيه حق. وهذه القصيدة من مختار شعر أبي تمام يقول فيها بعد المطلع يحث على الحزم وملاقاة الأهوال وأجاد.
إذا المرء لم تستخلص الحزم نفسه * فذروته للحادثات وغاربه أعاذلتي ما أخشن الليل مركبا * وأخشن منه في الملمات راكبه ذريني وأهوال الزمان أفانها (5) * فأهواله العظمى تليها رغائبه ثم يقول في وصف الركاب:
ألم تعلمي أن الزماع على السرى * أخو النجح عند الحادثات وصاحبه دعيني على أخلاقي الصمل التي * هي الوفر أو سرب ترن نوادبه (6) فان الحسام الهندواني انما * خشونته ما لم تفلل مضاربه (7) (وقلقل نأي من خراسان) الأبيات الثلاثة المتقدمة وبعدها على كل موار الملاط تهدمت * عريكته العلياء وانضم حالبه (8) رعته الفيافي بعدما كان حقبة * رعاها وماء الروض ينهل ساكبه ويقول في المخلص:
إلى ملك لم يلق كلكل بأسه * على ملك إلا وللذل جانبه إلى سالب الجبار بيضة ملكه * وآمله غاد عليه فسالبه وقد قرب المرمى البعيد رجاؤه * وسهلت الأرض العزاز كتائبه (9) سما للعلا من جانبيها كليهما * سمو عباب الماء جاشت غواربه فنول حتى لم يجد من ينيله * وحارب حتى لم يجد من يحاربه وذو يقظات مستمر مريرها * إذا الخطب لاقاه اضمحلت نوائبه وابن بوجه الحزم عنه وانما * مرائي الأمور المشكلات تجاربه أرى الناس منهاج الندى بعدما عفت * مهايعه المثلى ومحت لواحبه (10) ففي كل نجد في البلاد وغائر * مواهب ليست منه وهي مواهبه (11)