مختلفة ولطائف متباينة الآثار والخواص، بحيث تكون مجموعة من استعدادات متفاوتة وأميال مختلفة، يقتضي كل واحد منها شيئا غير ما يقتضيه الاخر، فله ميل إلى العوالم العالية الملكوتية، وميل إلى العوالم السافلة الحيوانية، وقد جعل الله تعالى مع ذلك لهذا الوجود الشريف قوة قاضية مميزة، يميز بها الخبيث والطيب وطريقي السعادة والشقاوة وهي القوة العاقلة، وأيدها بالكتب السماوية و الأنبياء والمرسلين، وجعله بحيث لا يقدم على عمل إلا بعد إدراكه طرفي الفعل والترك وما يترتب عليهما، وقدرته على كليهما، و اختياره بنفسه أحدهما على الاخر، فتارة يختار ما هو مقتضى اللطيفة الملكوتية والطينة العليينية، وأخرى ما هو مقتضى الجبلة الشيطانية والطينة السجينية، ففي كليهما يكون صدور الفعل عنه من جهة ما في ذاته من الاستعداد المقتضي لهذا الفعل، لما عرفت من أن روحه مخمرة من الاستعدادات المختلفة المقتضية لافعال متفاوتة. و المجعول له تعالى نفس تلك الرقائق لا عليتها، ولكن الانسان مع ذلك ليس مسلوب الاختيار، بل كل فعل يصدر عنه فإنما يصدر عنه بعد التفاته، واختياره بنفسه أحد الطرفين على الاخر. وهذا الاختيار هو مناط الثواب والعقاب لا الإرادة كما زعمه صاحب الكفاية وكان يكررها في درسه، إذ هي موجودة في سائر الحيوانات غير الانسان أيضا. [1] والفعل الاختياري هو ما كان مسبوقا بشعور طرفي الفعل والترك، والقدرة على كليهما، واختيار أحدهما على الاخر، لا ما كان مسبوقا بالإرادة مطلقا، نعم اختيار أحد الطرفين مستتبع لإرادته، ولكن المناط في الثواب والعقاب هو الاختيار لا الإرادة، فبطل ما في الكفاية من أصله وأساسه.
ثم إن ما ذكرناه من تركب روح الانسان من الرقائق المختلفة، لعله المشار إليه بقوله تعالى في سورة الدهر: (إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا). بناء على كون المراد من النطفة الأمشاج - أي - المختلطات -، هي اللطائف والرقائق التي خمرت منها روح الانسان وحقيقته التي فيها انطوى العالم الأكبر، لا النطفة الجسمانية التي تكون مبدأ لوجود بدنه، والشاهد على ذلك ترتيب الابتلاء عليه بقوله بعد ذلك (نبتليه)، إذ ما هو دخيل في ابتلاء الانسان وامتحانه، هو تركيب روحه من الرقائق المختلفة في الاقتضاء، ثم الانعام عليه بالعقل المميز بين الخير والشر، ثم تأييده بالكتب السماوية والأنبياء [1] ولاجل ذلك عدوا المتحرك بالإرادة فصلا لمطلق الحيوان. ح - ع - م