أقول: تضاد الاحكام من الأمور المشهورة بينهم، وملاحظة كلماتهم تشهد بكونه من المسلمات عندهم، ولذلك ترى المجوزين يحومون حول تكثير متعلق الأمر والنهي، حتى ترتفع به غائلة التضاد، و المانعون قد جعلوا تمام همهم مصروفا في إثبات توحيد المتعلق بالنسبة إلى المجمع، حتى يلزم فيه اجتماع الضدين، وبالجملة: تضاد الأحكام الخمسة من المسلمات عندهم.
ولكن التحقيق خلافه، فإن الوجوب والحرمة وغيرهما من الاحكام ليست من العوارض العارضة لفعل المكلف (بالفتح) بل هي بحسب الحقيقة من عوارض المكلف (بالكسر)، لقيامها به قياما صدوريا، غاية الأمر أن لها نحو إضافة أيضا إلى المتعلق، ولكن ليس كل إضافة مساوقا للعروض.
توضيح ذلك: أنك قد عرفت سابقا أن كلا من البعث والزجر يتقوم بثلاث إضافات، ولا يعقل تحققهما بدونها: إضافة إلى المكلف (بالكسر)، وإضافة إلى المكلف (بالفتح)، وإضافة ثالثة إلى المكلف به (أعني الفعل)، فباعتبار إضافتهما إلى المكلف (بالكسر) يحمل عليه الامر والناهي والباعث والزاجر وأمثال هذه العناوين المنتزعة عنه باعتبار صدور البعث أو الزجر عنه، وباعتبار إضافتهما إلى المكلف (بالفتح) يحمل عليه المأمور والمبعوث أو المنهي و المزجور، وباعتبار إضافتهما إلى المكلف به يحمل عليه الواجب و المأمور به أو الحرام والمنهي عنه ونحو ذلك، وأنحاء هذه الإضافات مختلفة، فإن إضافتهما إلى المكلف (بالكسر) إنما هي بصدورهما عنه و قيامهما به قيام العرض بمعروضه، كسائر الافعال القائمة بفواعلها، و أما إضافتهما إلى المكلف (بالفتح) وإلى المكلف به فليست من هذا القبيل، لعدم كونهما مما يعرض عليهما خارجا، وعدم كونهما موضوعين لهما، بداهة أن العرض الواحد ليس له إلا موضوع واحد، فإضافة البعث أو الزجر إلى المكلف به مثلا، وإن كانت مصححة لانتزاع مفهوم الواجب أو الحرام عنه، ولكنه ليس من جهة كون الوجوب أو الحرمة عرضا للمكلف به، إذ ليس المصحح لانتزاع العناوين منحصرا في العروض، ألا ترى أن العلم الذي هو من الصفات النفسانية، له نحو إضافة إلى المعلوم بالعرض الذي هو أمر خارجي، مع أنه ليس من عوارضه بالبداهة، إذ المعلوم بالعرض قد يكون أمرا مستقبلا معدوما حين العلم، ولا يصح قيام الموجود بالمعدوم، فالبعث والزجر أيضا مثل العلم في أن لهما أيضا نحو إضافة إلى فعل المكلف، وباعتبارها تنتزع عنه العناوين، ولكنهما ليسا من عوارضه، كيف ولو كانا من عوارضه لم يعقل تحقق العصيان أبدا، فإنه متوقف على ثبوت البعث والزجر، ولو كان البعث والزجر من عوارض الفعل الخارجي توقف تحققهما على ثبوت الفعل في