أو فرارا من عقابه أو لنحو ذلك من الدواعي الإلهية، فإرادة صدور الفعل عن العبد بتوسط إرادته علة لان يصير المولى في مقام إحداث الداعي في نفس المكلف، وأن يريد بعثه وتحريكه نحو العمل ليمتثله المكلف بعد العلم به، ولا تكفي نفس إرادة الفعل منه على النحو المزبور [1] في صدوره عن العبد بإرادته، ما لم تتولد منها الإرادة الثانية متعلقة بإنشاء البعث والتحريك، فاللازم على المولى بعد إرادة الفعل إرادة البعث ثم إنشائه حتى يصير داعيا للمكلف، والإرادة التشريعية ليست عبارة عن إرادة صدور الفعل عن المكلف، بل هي عبارة عن الإرادة الثانية المتولدة منها، أعني إرادة البعث و التحريك لايجاد الداعي في نفس المكلف، وما يكون وزانها وزان الإرادة التكوينية إنما هي الإرادة الأولى - أعني إرادة الفعل - لا الإرادة الثانية - أعني إرادة البعث -، فإن البعث ليس إلا لايجاد الداعي في نفس المكلف وهذا الغرض يحصل بإنشاء بعث واحد متعلق بالفعل المطلوب، من دون احتياج إلى تحريكات متعددة بعدد المقدمات، لما عرفت سابقا من أن نفس الامر المتعلق بذي المقدمة كاف في إيجاد الداعي بالنسبة إلى المقدمات أيضا، فتأمل.
الرابع:
من الأدلة، الوجدان، وتقريبه أنا إذا راجعنا وجداننا نرى أن المولى إذا أمر بشئ له مقدمات، تكون هذه المقدمات أيضا مطلوبة له، بمعنى أن له حالة بعثية بالنسبة إليها، بحيث لو التفت إليها لارادها و أمر بها، فهي واجبة ومرادة بوجوب تبعي وإرادة تبعية وإن لم تكن ملتفتا إليها فعلا، ولذلك قد تراه يجعلها في قالب الطلب مستقلا، فيقول مثلا: ادخل السوق واشتر اللحم.
وفيه: أنا لا نسلم شهادة الوجدان على وجوب المقدمة، بل هو من أقوى الشواهد على عدمه، [1] أقول: لا يخفى أن تسمية اشتياق المولى صدور الفعل عن عبده بتوسيط إرادته بالإرادة لا تخلو عن مسامحة، لما هو المحقق في محله من الفرق البين بين الشوق (وإن كان مؤكدا) وبين الإرادة، فإن الإرادة حالة إجماعية للنفس لا تنفك من الفعل أبدا، بخلاف الشوق المؤكد فإنه مع كمال تأكده قد ينفك منه الفعل لوجود بعض الموانع. و ما ينقدح في نفس المولى بالنسبة إلى فعل العبد هو الشوق المؤكد ثم إرادة البعث دون إرادة الفعل، وإنما تنقدح إرادة الفعل في نفس الفاعل، وهي العلة لصدور الفعل عنه دون الشوق المؤكد المنقدح في نفسه أو نفس المولى، فإنه قد ينفك منه الفعل، وانفكاك المعلول من العلة محال. وما قد يتعلق بأمر استقبالي فيظن كونه إرادة فإنما هو مصداق للشوق المؤكد والمحبة لا الإرادة، إذ الإرادة إنما هي الحالة المستعقبة للفعل بلا فصل بينهما، وعليك بالتأمل التام، حتى لا يختلط عليك الامر، وتميز بين المحبة والشوق وبين الإرادة. وليعلم أيضا أنه من الاشتباهات الجارية على الألسنة جعل الكراهة في قبال الإرادة، مع أنها في قبال الشوق والمحبة. ح - ع - م.