بيان ذلك: أن الامر المتعلق بالمقدمة في هذا المثال أمر وتحريك حقيقة، مثل الامر المتعلق بذيها من غير فرق بينهما من جهة البعث و التحريك، ولا ملاك لهذا الامر المتعلق بالمقدمة إلا مقدميتها لذيها الواجب ووقوعها في طريقه من دون أن يكون له ملاك آخر، فيستفاد من ذلك أن المقدمية للواجب أيضا من الملاكات المقتضية للامر والايجاب ومن العلل الموجبة لهما، ونتيجة ذلك وجوب كل ما وجد فيه هذا الملاك ولو بالوجوب التبعي، بمعنى أن المولى لو التفت إليه لاراده ولانقدحت في نفسه إرادة البعث نحوه (انتهى). وفيه:
أن الامر المتعلق بدخول السوق في هذا المثال ليس بحسب الحقيقة متعلقا بدخول السوق بأن يكون هو المبعوث إليه في قبال شراء اللحم، بل هو أيضا في الحقيقة أمر بشراء اللحم. توضيح ذلك - أن دخول السوق - بما هو طريق إلى شراء اللحم - مأمور به ومبعوث إليه لا بما هو هو، فهذا البعث بالنظر الدقيق تأكيد للبعث المتعلق بشراء اللحم، وليس بعثا مستقلا في قباله، بداهة أن المبعوث إليه في قول المولى: ادخل السوق واشتر اللحم عند العقلا أمر واحد وهو شراء اللحم، لا أمران.
الثالث:
من الأدلة ما ذكره بعض أعاظم العصر، وحاصله: أن الإرادة التشريعية وزانها وزان الإرادة التكوينية، فكما أن الإرادة التكوينية إذا تعلقت بفعل تتولد منها إرادات أخر متعلقة بمقدماته كما إذا أراد الانسان، الكون في مكان مخصوص، فإنه تتولد من هذه الإرادة إرادات متعددة متعلقة بمقدماته: من وضع الاقدام ورفعها، ونحو ذلك مما له دخل في وصوله إلى المقصد، فكذلك الإرادة التشريعية المتعلقة بصدور الفعل عن الغير تتولد منها إرادات أخر تشريعية متعلقة بمقدماته ومباديه (انتهى).
وفيه: أن الإرادة التشريعية ليست عبارة عن إرادة صدور الفعل عن الغير، بلا توسط إرادة منه، فإن هذا عين الإرادة التكوينية، بل هي عبارة عن إرادة بعث المكلف نحو الفعل المطلوب، حتى يحدث في نفسه الداعي فيوجده بإرادته، ولما كان نفس البعث نحو ذي المقدمة كافيا في حصول الداعي بالنسبة إلى إيجاد المقدمات، فلا يبقى احتياج إلى إرادة البعث نحو المقدمات.
توضيح ذلك: أن المولى إذا أراد صدور فعل عن عبده فإما أن يريد صدوره عنه بلا توسط إرادة من العبد متعلقة بالفعل، وإما أن يريد صدوره عنه بإرادته واختياره.
أما الأول: فمرجعها الإرادة التكوينية. وأما الثاني فلا بد من أن تتولد من إرادة المولى صدور الفعل عن عبده على النحو المزبور إرادة أخرى منه متعلقة ببعث المكلف وتحريكه حتى يحدث له الداعي نحو الفعل بعد العلم به، ويوجد في نفسه مبادئ الاختيار فيوجده امتثالا أو طلبا لجنانه