لم أعد فيه مفاخري * ومديح آبائي النجب ومقطعات ربما * حليت منهن الكتب لا في المديح ولا الهجاء * ولا المجون ولا اللعب ومن البديهي ان لا يعدو أبو فراس وهو الشاعر المطبوع في شعره مفاخره ومديح آبائه وتلك المقطعات التي حلى بها كتبه ورسائله لأن المديح الذي كان شائعا في ذلك العصر لم يكن يمت إلى شعور صادق وانما كان من اجل حاجات خاصة تحمل الشعراء على اصطناع شعور مزيف ولولا تلك الحاجات لما وجدوا دافعا نفسيا لمدح من مدحوا اما أبو فراس فقد كان غنيا عن أن يقضي حاجة من مال أو جاه بالشعر. لذلك يقول الشعر للشعر مدحا وغيره وكذلك ترفعه عن الهجاء كان طبيعيا لأن الطبقة التي كانت تتهاجى من الشعراء والتي كانت تهجو من منعها سيبه من الملوك والامراء كان أبو فراس بعيدا عنها ولم يكن له بينها قرين تدعو المنافسة بينهما إلى التهاجي وانما كان أقرانه من النبلاء الامراء الذين عرفت ولم يكن يرجو سيب أحد ليهجوه إذا منعه بل كان يرى نفسه أعلى وارفع من أن يهجو أحدا. وهو نفسه لم يكن يرضى ان يحشر في زمرة الشعراء، لما اخذت الأذهان في ذلك العصر عنهم من اخلاق لا ترضاها النفوس الكبيرة فهم مداحون اليوم لمن هجوه بالأمس وهجاؤون غدا لمن مدحوه اليوم في سبيل الدرهم والدينار إلى غير ذلك من الاخلاق التي نعرفها اليوم من اخبار أكثرهم وأشعارهم قال:
فحم الغبي وقلت غير ملجلج * اني لمشتاق إلى العلياء وصناعتي ضرب السيوف وانني * متعرض في الشعر بالشعراء وقال:
نطقت بفضلي وامتدحت عشيرتي * فما انا مداح ولا انا شاعر والحقيقة انه كان هو وحده الشاعر الذي يحق له ان يفخر بشعره ويتباهى بشاعريته إذا غض غيره من الشعراء من ابصارهم الا نادرا منهم وكذلك خلو شعره من المجون واللعب كان امرا بديهيا وقد عرفت من أخلاقه ورجولته ما عرفت. وحسب الشعر العربي بل القومية العربية من أبي فراس تلك الاغراض التي ذكرها في أبياته المتقدمة والتي قصر عليها شعره ففيها المجال كل المجال لاظهار شاعريته الفياضة. وفيها دروس العزة والرجولة والقومية لمن يريدون حياة عزيزة وكرامة موفورة.
وقد نظم أبو فراس في جل أبواب الشعر وأنواعه المتعارفة ومقاصد الشعراء وتصرف في مناحي الشعر ما شاء فجاء في جميعها بالمعاني البديعة في التراكيب البليغة وجاء في جميع ذلك سابقا مجليا.
نظم في الغزل والنسيب فكان غزله ونسيبه يكاد يسيل رقة مع احتشام ومحافظة على الأدب. ونظم في المديح فلم يتعد مدح قومه وعشيرته وخاصة ابن عمه الأمير سيف الدولة ومدح أهل البيت النبوي وما تضمنته مراسلة اخوانه وأصدقائه فجاء مدحه مع تفوقه في صياغته ومعانيه الجليلة بعيدا عن الدعاوى الباطلة والمبالغات الشائنة مخلدا بخلود الدهر.
لقد أحسنت حياة أبي فراس إلى الأدب العربي أيما احسان لأنه وهو الأمير المبجل والفارس المقدم والابي المترفع قد بعد عن أن يلتجئ إلى المدائح الكاذبة المصطنعة الشعور فكان مديحه صادقا لا يقوله الا بدافع الشعور الصادق الصميم لأنه لم تلجئه حاجة إلى اصطناع شعور مزيف كالتي ألجأت المتنبي إلى مدح كافور. ومدائح أبي فراس تكاد تكون وحدها في الأدب العربي شعرا صحيحا لأنها قيلت لوجه الشعور الصادق والوداد الحق. فكل مدائحه في ذلك لأهل البيت النبوي وفي آل حمدان ومراسلة اخوانه. اما مدائحه في أهل البيت عليهم السلام فإنها تشعر بولاء صادق وعصبية شديدة و ايمان راسخ تجلت فيها عقيدته الدينية واضحة راسخة واما مدائحه في آل حمدان فمصدرها الفخر والاعتزاز وأكثرها في سيف الدولة وقد علمت اي صلة من نسب و أدب ومكانة كانت تجمع بينهما. فما كان ليمجد اعمال سيف الدولة ويفخر بها الا لأن مجده هو مجده وفخره هو فخره كما قال:
ولو لم يكن فخري وفخرك واحدا * لما سار عني بالمدائح سائر وما كان ليتواضع في مدحه له ويضع نفسه في منزلة التابع الأقل الا لان سيف الدولة صاحب الفضل عليه في كفالته وتربيته له وتقديمه إياه تقديرا لمزاياه فهو في هذا التواضع الشديد يساير خلقه العالي في الوفاء وعرفان الجميل فلا تذلل ولا استكانة. ولهذا رأيناه في مواضع كثيرة عندما كان الموقف يستلزم فخرا واستشهادا بحقائق. يخاطب سيف الدولة خطاب الند للند. ولم يكن في ذلك مجترئا على مقام سيف الدولة ولا متعديا حدوده واما مراسلته لاخوانه وأصدقائه فلا تنم الا عن حسن الوفاء وكرم الاخلاق.
ونظم في الرثاء قليلا لم يعد به رثاء بعض أئمة أهل البيت ورثاء أمه وبعض عشيرته فكان دافعه إلى ذلك عاطفة دينية أو رحم ماسة لا غرض آخر من أغراض الدنيا التي يتوخاها الشعراء.
ونظم في الفخر والحماسة وذكر الحرب والتمدح بالشجاعة وأكثر فكان الشاعر الوحيد الذي جمع إلى متانة الشعر وحصافته صدق الدعوى في حماسته فلم يفخر الا بما فيه ولم يقل قولا لم يصدقه الفعل فهو إذا افتخر بقومه وعشيرته وبحروبه وشجاعته وبحلمه وصفحه وكرمه وبذله وتحمسه لا يفخر الا بما فيه ويقول قولا صادقا يطابق الفعل ولا يكون كأكثر الشعراء في حماستهم وكثير من أقوالهم في أنهم يقولون ما لا يفعلون وان كان ربما تجاوز في بعض ذلك كقوله:
إذا أمست نزار لنا عبيدا * فان الناس كلهم نزار وقوله:
حمدان جدي خير من وطئ الحصى * وأبي سعيد في المكارم أوحد ونظم في الاحتجاج والمناظرة فكان المتكلم الفريد الذي لا يفوقه الكميت في شعره الكلامي ولا علماء الكلام والجدل فيما دونوه في كتبهم الكلامية أبانت عن ذلك ميميته المشهورة المسماة بالشافية التي رد فيها على محمد بن سكرة العباسي بأقوى رد وبرهان وأوضح حجة وبيان وشحنها بالاحتجاجات والردود والإشارة إلى الوقائع وأطال فيها فكانت آية في البلاغة والمتانة والرصانة مع أن ذلك كما مر تحتاج الإجادة فيه إلى قوة فائقة والا غلبت على الشعر الركة. ونظم في الصفات فأبدع ومنظومته في وصف الطرد والقنص مع طولها أجاد فيها وأبدع. ونظم في الزهد والمواعظ والحكم فكان كأزهد زاهد وأكبر واعظ وأعظم حكيم وهو الفارس البطل الشجاع الفاتك الذي تغلب على مثله قساوة القلب والبعد عن الزهد والمواعظ