واستمرت الحال سنون متمادية حتى اختار الله للسيد المرتضى اللقاء به، لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة 436 هجرية.
فاستقل الشيخ الطوسي بالظهور، وانثنت له وسادة المرجعية العليا للطائفة، وتفرد بالزعامة الكبرى، وأصبح وحيد العصر بلا منازع، فقصد إليه القاصدون يضربون آباط الإبل بعد أن سار ذكره في الآفاق سير المثل، وازدلفت إليه العلماء تستضئ بنوره المتألق وترتشف من معينه المتدفق، يشد إليه الرحال من كل حدب وصوب ليستمتعوا بغزير علومه على اختلاف مسالكهم ومذاهبهم، ويستزيدوا من سعة دائرة استبحاره في شتى العلوم، حتى بلغ عدد تلاميذه الذين اجتهدوا على يديه، وتلقوا منه رموز العلم وكنوز المعرفة، أكثر من ثلاثمائة مجتهد من الخاصة، فضلا عن العامة الذين لا يمكن حصرهم و عدهم، لما رأوا فيه من شخصية علمية وقادة ونبوغا موصوفا، وعبقرية ظاهرة في العلم والعمل، حتى أن خليفة الوقت القائم بأمر الله (عبد الله بن القادر بالله أحمد) أسند إليه كرسي الكلام والإفادة، ولم يكن هذا الكرسي ليمنح إلا للأوحدي من الناس في ذلك العصر، والمتفوق على الكل علما وعملا وكمالا.
فلم يفتأ شيخ الطائفة على هذا المنوال اثنتي عشرة سنة مقصودا لحل المشكلات، وأداء المهمات، وقضاء الحاجات، حتى حدثت القلاقل والفتن والاضطرابات. وجد الشيخ الطوسي في إخمادها وإطفاء لهيبها، ولكن الحظ لم يحالفه، فاضطرمت نيرانها أكثر فأكثر.
تلك الأحداث المؤلمة التي شنها (طغرل بك) أول ملوك السلجوقيين على الشيعة العزل من السلاح، عند دخوله بغداد عام 447 هجرية، فأمر بإحراق مكتبة شيخ الطائفة العامرة بأمهات الكتب الخطية الثمينة، والتي لا تقدر بثمن، تلك المكتبة التي بذل أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي