وهو الوالي عليها فاسلم عمله وولايته وأهله وأولاده ولاذ بالفرار غير مبال بما يلحقه بذلك من العار حتى ذبح بسر ولديه الصغيرين على درج صنعاء، وما كان أجدره بأن يثبت لبسر ويحاربه وهل هو الا الموت ورب حياة شر من الموت، و الناس يتفاوتون كالتفاوت بين التراب والذهب، ثم أنظر إلى سيرة جارية بن قدامة ومن معه في مسيره ذلك، فقد كان - كما سمعت - إذا ارمل بعض أصحابه من الزاد يأمر أصحابه بمواساته، أو سقط بعير رجل أو حفيت دابته يأمر أصحابه بان يعقبوه، اما بسر وأصحابه فكانوا على ما ذكره المؤرخون كلما جاءوا إلى ماء من مياه العرب ركبوا جمال أهله وقادوا خيلهم إلى المنهل الآخر، فيفعلون كذلك، فلم يكفهم انهم سائرون ليفسدوا في الأرض حتى اغتصبوا جمال الاعراب وركبوها وتركوا خيولهم.
وروى المجلسي في البحار عن كتاب الغارات باسناده عن الكلبي ولوط بن يحيى ان ابن قيس قدم على علي عليه السلام فأخبره بخروج بسر بن أرطأة من قبل معاوية، فندب الناس فتثاقلوا عنه، إلى أن قال: فقام جارية ابن قدامة السعدي وقال: انا أكفيكهم يا أمير المؤمنين! فقال: انك لعمري لميمون النقيبة حسن النية صالح العشيرة، وندب معه ألفين وأمره ان يأتي البصرة ويضم اليه مثلهم، فشخص جارية وخرج عليه السلام فلما ودعه أوصاه بما أوصاه، إلى أن قال: فقدم البصرة وضم اليه مثل الذي معه، ثم اخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن لم يغصب أحدا ولم يقتل أحدا الا قوما ارتدوا فقتلهم وحرقهم اه. وفي خبر آخر انه لما رجع من سيره بعد قتل علي عليه السلام دخل على الحسن عليه السلام فضرب على يده فبايعه وعزاه وقال: ما يحبسك - يرحمك الله - سر إلى عدوك قبل ان يسار إليك!!
فقال: لو كان الناس كلهم مثلك سرت بهم اه. وفي الإصابة: ولجارية هذا قصة مع معاوية يقول فيها: فقال له معاوية: سل حاجتك يا أبا قندس! قال تقر: الناس في بيوتهم فلا توفدهم إليك فإنما يوفدون إليك الأغنياء ويذرون الفقراء اه. ووفد جارية بن قدامة على معاوية مع الأحنف بن قيس حين وفد عليه ذكره الكشي في ترجمة الأحنف وفي العقد الفريد في مجاوبة الامراء والرد عليهم: قال معاوية لجارية بن قدامة: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية؟ قال: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية وهي الأنثى من الكلاب! قال: لا أم لك! قال: أمي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا! قال: انك لتهددني؟ قال: انك انك لم تفتتحنا قسرا ولم تملكنا عنوة، ولكنك أعطيتنا عهدا وميثاقا، وأعطيناك سمعا وطاعة، فان وفيت لنا وفينا لك، وان فزعت إلى غير ذلك: فانا تركنا وراءنا رجالا شدادا والسنة حدادا. قال له معاوية:
لأكثر الله في الناس من أمثالك! قال جارية: قل معروفا وراعنا فان شر الدعاء المحتطب. وقال نصر بن مزاحم في كتاب صفين: انه قدم على علي عليه السلام بعد قدومه الكوفة الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة وحارثة بن بدر وزيد بن جبلة واعين بن ضبيعة فقام الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة وحارثة بن زيد، فتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين ان تكن سعد لم تنصرك يوم الجمل، فإنها لم تنصر عليك، وقد عجبوا أمس ممن نصرك وعجبوا اليوم من خذلك لأنهم شكوا في طلحة والزبير ولم يشكوا في معاوية، وعشيرتنا بالبصرة فلو بعثنا إليهم، فقدموا الينا فقاتلنا بهم العدو وانتصفنا بهم وادركوا اليوم ما فاتهم أمس! فقال علي لجارية بن قدامة - وكان رجل تميم بعد الأحنف -: ما تقول يا جارية؟ فقال: أقول إن هذا جمع حشره الله بالتقوى ولم تستنكره فيه شاخصا ولم تشخص فيه مقيما، والله لولا ما حضرك فيه من الله، لغمك سياسته. وليس كل من كان معك كان معك، ورب مقيم خير من شاخص، ومصرك خير لك وأنت اعلم. فكأنه كره اشخاص قومه عن البصرة اه.
وذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء نقلا عن تاريخ ابن عساكر، ولكنها غير موجودة في تاريخ ابن عساكر المطبوع إذ لم يذكر فيه جارية بن قدامة أصلا ان النسخة المطبوعة، مع أنه قدم دمشق على معاوية قطعا. ومن عادة ابن عساكر ان يذكر كل من قدم دمشق وان لم يكن من أهلها. فدل ذلك على أن نسخة تاريخ ابن عساكر المطبوعة ناقصة كما أشرنا اليه فيما تقدم قال السيوطي في تاريخ الخلفاء عند ذكر معاوية ما لفظه: اخرج ابن عساكر عن عبد الملك بن عمير قال: قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال: هل أنت الا نحلة قال: لا تقل فقد شبهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق والله ما معاوية الا كلبة تعاوي الكلاب وما أمية الا تصغير أمة.
وأخرج عن الفضل بن سويد قال: وفد جارية بن قدامة على معاوية فقال له معاوية: أنت الساعي مع علي بن أبي طالب والموقد النار في شعلك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم قال جارية: يا معاوية دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ولا غششناه منذ صحبناه قال: ويحك يا جارية ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية قال: أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية قال لا أم لك قال: أم ما ولدتني ان قوائم السيوف التي لقيناها لها بصفين في أيدينا قال: انك لتهددني قال:
انك لم تملكنا قسرة ولم تفتحنا عنوة ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق فان وفيت وفينا وان ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا وأدرعا شدادا وأسنة حدادا فان بسطت الينا فترا من غدر دلفنا إليك بباع من ختر. قال معاوية: لا أكثر الله في الناس أمثالك اه.
بعض رواياته في المستدرك للحاكم بسنده عن الأحنف عن جارية بن قدامة قلت يا رسول الله قل لي قولا ينفعني واقلل لعلي أعيه! قال: لا تغضب، وأعادها مرارا يقول لا تغضب اه.
اشعاره مر له رجز يجيب به عبد الرحمن بن خالد، ونسب اليه ابن شهرآشوب في المناقب هذا الرجز في أمير المؤمنين عليه السلام، وكأنه مقتطع من السابق، وهو قوله: من حقه عندي كحق الوالد * ذاك علي كاشف الأوابد خير امام راكع وساجد وفي المناقب أيضا نسبة هذه الأبيات إلى قدامة السعدي هكذا في النسخة المطبوعة، والظاهر أنه كان أصله ابن قدامة فسقط لفظ ابن من النساخ، ووجدناها أيضا في بعض المجاميع العاملية المخطوطة منسوبة إلى قدامة السعدي من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام والصواب ابن قدامة فهو الذي كان من أصحابه عليه السلام. قال:
رد الوصي علينا الشمس إذ غربت (1) * حتى قضينا صلاة العصر في مهل