الحمائم والبروق اللامعة والنجوم الطالعة والتبرم من العذال والوقوف على الاطلال وإذا أخذت في مدح سيد فأشهر مناقبه وأظهر مناسيه وأرهف من عزائمه ورغب في مكارمه واحذر المجهول من المعاني وإياك أن تشين شعرك بالعبارة الرديئة والألفاظ الحوشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط يقدر الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل الا وأنت فارع القلب ولا تنظم الا بشهوة فإن الشهوة نعم المعين على حسن النظم (وجملة الحال) ان تعتبر بما سلف من أشعار الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما استقبحوه فاجتنبه اه.
ونرى أبا تمام يوصي البحتري بترك الألفاظ الحوشية ويستعملها كما مر في الأمور التي عيبت عليه وان كان قد لا يرى ذلك حوشيا لألفه بألفاظ العرب الأولى كما مر أيضا. وفي اخبار أبي تمام للصولي حدثني سوار بن أبي شراعة حدثني البحتري قال كان أول أمري في الشعر ونباهتي فيه أن صرت إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان يجلس فلا يبقى شاعر الا قصده وعرض عليه شعره فلما سمع شعري اقبل علي وترك سائر الناس فلما تفرقوا قال أنت أشعر من أنشدني فكيف حالك فشكوت خلة فكتب لي إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق وقال امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أربعة آلاف درهم فكانت أول ما أصبته.
(حدثني) أبو عبد الله العباس بن عبد الرحيم الآلوسي حدثني جماعة من أهل معرة النعمان قالوا ورد علينا كتاب أبي تمام للبحتري: يصل كتابي على يدي الوليد بن عبادة وهو على بذاذته - اي سوء حاله - شاعر فأكرموه وفي اخبار أبي تمام للصولي: حدثني أبو الحسن علي بن إسماعيل قال قال لي البحتري أول ما رأيت أبا تمام مرة ما كنت عرفته قبلها اني دخلت علي أبي سعيد محمد بن يوسف وقد امتدحته بقصيدتي التي أولها:
أأفاق صب من الهوى فافيقا * أو خان عهدا أو أطاع شفيقا فأنشدته إياها فلما أتممتها سر أبو سعيد بها وقال أحسن الله إليك يا فتى فقال له رجل في المجلس هذا أعزك الله شعر لي علقه هذا فسبقني به إليك فتغير وجه أبي سعيد وقال يا فتى قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك ان تمت به الينا ولا تحمل نفسك على هذا فقلت هذا شعر لي أعزك الله فقال الرجل سبحان الله يا فتى لا تقل هذا ثم ابتدأ فأنشد من القصيدة أبياتا فقال لي أبو سعيد نحن نبلغ ما تريد ولا تحمل نفسك على هذا فخرجت متحيرا لا أدري ما أقول ونويت أن أسال عن الرجل من هو فما أبعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال جنيت عليك فاحتمل أتدري من هذا قلت لا قال هذا ابن عمك حبيب بن أوس الطائي أبو تمام فقم اليه فقمت اليه فعانقته ثم اقبل يقرظني ويصف شعري وقال انما مزحت معك فلزمته بعد ذلك وكثر عجبي من سرعة حفظه (اه) وفي الأغاني رواية هذا الخبر على وجه أتم فنذكرها وان لزم بعض التكرير قال حدثني علي بن سليمان - الأخفش - حدثني أبو الغوث بن البحتري عن أبيه وحدثني عمي حدثني علي بن العباس النوبختي عن البحتري قال أبو الفرج وقد جمعت الحكايتين وهما قريبتان قال كان أول ما رأيت أبا تمام اني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي التي أولها (أأفاق صب من هوى فافيقا) - وعدة أبياتها ثلاثة وسبعون بيتا فسر بها أبو سعيد وقال أحسنت والله يا فتى وأجدت وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه فوق كل من حضر عنده تكاد تمس ركبته ركبته فاقبل علي وقال يا فتى أما تستحي هذا شعري تنتحله وتنشده بحضرتي فقال له أبو سعيد أحقا تقول قال نعم وانما علقه مني فسبقني به إليك وزاد فيه ثم اندفع فأنشد أكثر هذه القصيدة حتى شككني علم الله في نفسي وبقيت متحيرا فاقبل علي أبو سعيد قال يا فتى لقد كان في قرابتك منا وودك لنا ما يغنيك عن هذا فجعلت أحلف له بكل محرجة من الايمان أن الشعر لي ما سبقني اليه أحد ولا سمعته منه ولا انتحلته فلم ينفع ذلك شيئا وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتى تمنيت أني سخت في الأرض فقمت منكسر البال أجر رجلي فخرجت فما هو الا ان بلغت باب الدار حتى خرج الغلمان إلي فردوني فأقبل علي الرجل فقال الشعر لك يا بني والله ما قلته قط ولا سمعته الا منك ولكنني ظننت انك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك ولوددت ان لا تلد ابدا طائية الا مثلك وجعل أبو سعيد يضحك ودعاني أبو تمام وضمني اليه وعانقني وأقبل يقرظني ولزمته بعد ذلك واخذت عنه واقتديت به اه ثم قال أبو الفرج: هذه رواية من ذكرت وقد حدثني علي بن سليمان الأخفش أيضا: حدثني عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي ان البحتري حدثه انه دخل على أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري وقد مدحه بقصيدة وقصده بها فألفى عنده أبا تمام وقد انشده قصيدة له فاستأذنه البحتري في الإنشاد وهو يومئذ حديث السن فقال له يا غلام أتنشدني بحضرة أبي تمام فقال تأذن ويستمع فقام فأنشده إياها وأبو تمام يسمع ويهتز من قرنه إلى قدمه استحسانا لها فلما فرع منها قال أحسنت والله يا غلام فمن أنت قال من طئ فطرب أبو تمام وقال من طئ الحمد لله على ذلك لوددت أن كل طائية تلد مثلك وقبل بين عينيه وضمه اليه وقال لمحمد بن يوسف قد جعلت له جائزتي فأمر محمد بها فضمت إلى مثلها ودفعت إلى البحتري وأعطى أبا تمام مثلها (اه) وقال الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري: أخبرني رجل من أهل الجزيرة يكنى بأبي الوضاح وكان عالما بشعر أبي تمام والبحتري وأخبارهما ان القصيدة التي سمع أبو تمام من البحتري عند محمد بن يوسف وكان اجتماعهما وتعارفهما القصيدة التي أولها (فيما ابتداركما الملام ولوعا) وانه لما بلغ إلى قوله فيها.
في منزل ضنك تخال به القنا * بين الضلوع إذا انحنين ضلوعا نهض اليه أبو تمام فقبل بين عينيه سرورا به وتحققا بالطائية ثم قال أبى الله إلا أن يكون الشعر يمنيا (اه) ولا مانع من تعدد الواقعة. وفي هبة الأيام حدث البحتري قال أنشدت أبا تمام شيئا من شعري فتمثل ببيت أوس بن حجر.
إذا مقرم منا ذرا حد نابه * تخمط فينا ناب آخر مقرم ثم قال لي نعيت والله إلي نفسي فقلت أعيذك بالله من هذا فقال إن عمري لن يطول وقد نشأ في طئ مثلك أما علمت أن خالد بن صفوان رأى شبيب بن شيبة وهو بين رهط يتكلم فقال يا بني لقد نعى إلي نفسي احسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب قط الا مات من قبله فقلت بل يطيل الله بقاءك ويجعلني فداك ومات أبو تمام بعد سنة (اه) وفي أخبار أبي تمام للصولي: حدثني أبو الحسن علي بن محمد الأنباري:
سمعت البحتري يقول أنشدني أبو تمام لنفسه وهو في هجاء عثمان بن إدريس السامي -.
وسابح هطل التعداء هتان * على الجراء امون غير خوان أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه * فخل عينيك في ظمآن ريان