بطريقة علمية حسب قواعد علم اللغة الحديث (الفيولوجيا). وإننا في هذه الدراسة سنقتصر على الاعتماد على كتاب هولميارد الأستاذ الأول في علوم الكيمياء بمدرسة كلفتن في برستل بانكلترة المنشور في باريس عام 1928، وعلى مختار رسائل جابر بن حيان نشرت في القاهرة عام 1935 من قبل المستشرق التشيكوسلوفاكي ب. كراوس. ومما يؤسف له أن رسائل جابر لم يتابع نشرها لأن فيها من العلوم مما تزيد في قيمة تراث الاسلام، فالأمل من معاهدنا العلمية توجيه اهتمامها لمثل هذه القضايا الهامة.
إذا طالعنا هذين الاثرين نجد أن الصلة بين الاثنين أعني جابرا وجعفرا هي صلة رعاية وتوجيه ففي كتاب الرحمة من منشورات هولميارد نقرأ ما يلي:
(... قال لي سيدي جعفر يا جابر، فقلت لبيك يا سيدي، فقال هذه الكتب التي صنفتها جميعها وذكرت فيها الصنعة وفصلتها فصولا وذكرت فيها من المذاهب وآراء الناس وذكرت الأبواب وخصصت كل كتاب... وبعيد أن يخلص منها شئ إلا الواصل والواصل غير محتاج إلى كتبك.
ثم وضعت كتبا كثيرة في المعادن والعقاقير، فتحير الطلاب وضيعوا الأموال وكل ذلك من قبلك.
... والآن يا جابر استغفر الله وأرشدهم إلى عمل قريب سهل تكفر به ما تقدم لك وأوضح.
... فقلت يا سيدي أشر علي أي الباب أذكر، فقال ما رأيت لك بابا تاما مفردا إلا رموزا مدغما في جميع كتبك مكتوما فيها، فقلت له قد ذكرته في السبعين وأشرت اليه في كتاب الملك من الخمسمائة وفي كتاب صفة الكون وفي كتب كثيرة من المائة ونيف، فقال صحيح ما ذكرته من ذلك في أكثر كتبك وهو في الجمل مذكور، غير أنه مدغم مخلوط بغيره، لا يفهمه إلا الواصل، والواصل مستغن عن ذلك، ولكن بحياتي يا جابر، افرد فيه كتابا بالغا بلا رمز واختصر كثرة الكلام بما تضيف اليه كعادتك، فإذا تم فاعرضه علي فقلت السمع والطاعة).
يوجد لجابر ناحية أخرى لا نرى فيها أي أثر لجعفر وهذه الناحية هي ناحية التجربة والعمل فمما يزيد اندهاشنا ان جابرا كسائر علماء العرب قد قطع خطوة ابعد مما قطع اليونان في وضع التجربة أساس العمل لا اعتمادا على التأمل الساكن فقط، فنراه يقول: (وملاك هذه الصنعة العمل، فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشئ ابدا) وفي محل آخر يقول في الرسائل المنشورة بالقاهرة: (أن الأصل كان من الطبائع لا من غيرها، فالوصول إلى معرفتها ميزانها، فمن عرف ميزانها عرف كل ما فيها، وكيف تركبت، والدربة تخرج ذلك. فمن كان دربا كان عالما حقا، ومن لم يكن دربا لم يكن عالما. وحسبك بالدربة في جميع الصنائع، أن الصانع الدرب يحذق وغير الدرب يعطل.
من أغرب ما يذكره جابر تأثير الطلسمات والقصد من ذلك تأثير الكواكب على المادة، ويمكننا تفسيرها في الوقت الحاضر من وجهتين: 1 - الاشعاعات البعيدة. 2 - القرابة بين العالم العلوي والعالم السفلي، وإننا لنجد هذه القرابة في الوقت الحاضر حسبما ثبت للعلماء الذريين بالشبه الموجود بين الذرة غير المرئية والعالم الشمسي الكبير.
وفي كتاب البيان منشورات هولميارد يقول جابر: (انه لما كان الكلام في البيان أجل ما يحتاج إلى تقديمه في علوم مولانا عليه السلام - ويقصد بذلك جعفر -، وكان طريقه أحد الطرق التي يجب أن يدرج المتعلم عليها ويتغذى بها، وجب ان نذكره في هذا الكتاب ليعرفه الراغب في هذه العلوم الشريفة بحقه وصدقه فيعظم انتفاعه به).
نستنتج اذن أن جابرا يعتقد بوجود طريقين لادراك الصنعة: طريق ظاهري وذلك باقتفاء اثر الطبيعة والتداريب، وطريق باطني وذلك بمعرفة الفرضيات الكبرى وتطهير النفس البشرية وان ما استقاه من معلمه الروحي الطريق الثاني، لأنه نظرا للوثائق التي وصلت الينا ان هناك تجارب قام بها جابر في عالم الكيمياء لم ينته الأخصائيون من دراستها بعد. وفرضيات كبرى قد أدرجها في رسائله، وإذا كان الأخصائيون يجهلون مصادر معلوماته عن العمليات الكيميائية الايجابية (بعد تقرير المنتحل والأصلي) فإنه لمن الواضح الجلي ان من أهم مصادر معرفته الالهامات الباطنية التي اقتبسها عن إمامه جعفر الصادق وهي سوف تحتل مكانا ساميا في تاريخ الفكر البشري يوم تدرس بامعان من قبل أخصائيين كرسوا حياتهم في سبيل كشف الغطاء عن غوامضها.
أما سبب الاخفاق الذي بلي به الباحثون حتى اليوم، لعدم تفريقهم بين منابع معرفة جابر في المعلومات الايجابية وبين التأملات الكونية العامة.
فإذا كان بعيدا كون جعفر ملهم التجارب في الكيمياء، فهو ولا شك ملهم النظرات العالمية العميقة. ويمكننا الذهاب ابعد من ذلك فنقول حتى أننا لو سلمنا جدلا بأن كتب جابر هي منتحلة أو هي ليست لمؤلف واحد بل لعدة مؤلفين، كما حاول اثبات ذلك كل من روسكا وكرادس، فالاحتمال لا يزال قويا في اقتباس منهج الفرضيات الكبرى من هذه الموسوعة المنسوبة لجابر عن جعفر الصادق، وإلا لما ذكرت كتب جابر الامام في معرض الحديث. هذا وإن لم يرد ذكره في التقطير والتصعيد والتكليس أو عند ذكر الأحجار أو المعادن أو غير ذلك، بل ورد ذكره بما له علاقة بالروح. وإذا كان ذلك من قبل الصدف والاتفاق فلماذا كان الاتفاق بالمعنويات التي لها صلة قوية بجعفر ولم يكن هناك اتفاق بالماديات.
فجعفر على ما يظهر معلم جابر هذه الأمور وهو شيخه وإمامه وموجهه وراشده وناصحه، وعلى وجود عدد لا يستهان به من فلاسفة اليونان في كتب جابر، فلا يمنع أن يكون الامام قد حبذ هذه الدراسات لان (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها).
نجد في رسائل جابر معلومات قد سبقت عصره بقرون، من ذلك تلك الفكرة الهائلة التي أيدتها التجارب اليوم من أن الجوهر البسيط يشبه العالم الشمسي.
يستفاد مما مر يستفاد مما سلف أمور وهي تشيعه وعلمه بصناعة الكيمياء وتصوفه وفلسفته وتلمذته على الصادق عليه السلام واشتهاره عند أكابر العلماء واشتهار كتبه بينهم اشتهارا لا مزيد عليه، وعن صاحب رياض العلماء أنه قال فيه في ترجمة جابر بن حيان المذكور: قال الحكيم: سلمة بن أحمد