من مؤلفات جابر بن حيان إلى اللاتينية، وهو مجموعة تتألف من سبعين كتابا.
وجدير بمن يظفر بمثل هذه الشهرة في العالمين - الشرقي والغربي - ان تحاك حوله الأساطير، وان تنسب إليه الكتب، حتى ليبلغ بالمؤرخين المحققين الذهاب إلى حد الشك في وجوده وفي حقيقة شخصيته، وفي أنه هو صاحب تلك المؤلفات أو أن غيره هو الذي صنفها ونحلها إياه. وقد كان جابر ومؤلفاته موضع شك القدماء، كما كان موضع شك المحدثين.
(ثم يشير الكاتب إلى أن ممن شك بحقيقة جابر، ابن نباتة فيقول:) ويبدو أن الباعث الذي دفع ابن نباتة إلى ذلك الشك، هو انكاره علم الكيمياء جملة، ذلك العلم الذي زعموا انه يقلب المعادن الخسيسة إلى ذهب. وكان علماء المسلمين وفلاسفتهم قد انقسموا في أمر الكيمياء فريقين: فريق يقول بامكان ذلك التحويل، وفريق ينكره. والمنكرون لم تصح عندهم النظرية القائلة بإمكان خلق الإنسان مواد تشبه المواد الطبيعية، وكان الكندي على رأسهم. وقد أشار ابن نباتة إلى ذلك، وهو يشرح عبارة ابن زيدون التي يقول فيها: (وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء)، وهي عبارة تدل على شهرة جابر، وان اسمه أصبح عنوانا على هذا الفن. قال ابن نباتة في شرحه: (الكيمياء معروفة الاسم، باطلة المعنى. وليعقوب الكندي رسالة بديعة سماها: ابطال دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة، جعلها مقالتين، يذكر فيها تعذر فعل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله، وخدع أهل هذه الصناعة وجهلهم. ويقال ان أبا بكر الرازي رد عليه في رسالة له...) وللكيمياء في الواقع جانبان: جانب عملي تجريبي، وجانب نظري، اما قائم على أصول نظرية سابقة على التجربة، واما مستمدة من التجربة نفسها. وسنعرض للمنهج التجريبي فيما بعد وقيمته واثره لأهميته بالنسبة للعلوم بوجه عام. ولكننا نقول الآن: ان حياة المسلمين منذ القرن الثاني للهجرة بعد أن أصبحت الدولة الاسلامية متسعة الأطراف، وفي أعلى درجة من الحضارة في ذلك الزمان، اقتضت ان ينظر الناس في أمور معاشهم ورفاهيتهم ومدنيتهم، واقتضى ذلك منهم تدبير أمور كثيرة تحتاج إلى عمليات كيميائية، مثل: صناعة الورق و الزجاج والأحبار والأصباغ لتلوين الأنسجة وتقطير النباتات واستخراج العطور لمنافعها في الدواء وفي التبرج، وصياغة المعادن وغير ذلك من الأمور التي تعتمد على عمليات كيميائية من احتراق وتقطير وتصعيد، وتحتاج هذه العمليات إلى أجهزة تدبر فيها كالبواتق والأنابيب والقدور وإشعال النيران القوية. وقد برع العرب في هذه العمليات التجريبية، وابتكروا أجهزة جديدة، واستفادوا من القدماء ومن شتى الدول المجاورة، وتقدموا بهذه الصناعة خطوات واسعة إلى الامام. وهذا الجانب يسميه جابر، علوم الصنائع التي يحتاج إليها في الكفاية. أما الجانب النظري، فقد نشب عليه الخلاف بين علماء العرب، وانما الذي دفعهم إلى ذلك الخلاف، ما دخل على الكيمياء من سحر تحويل الفضة أو الرصاص أو غير ذلك إلى ذهب، وهل يمكن ذلك أو لا يمكن، وان كان ذلك ممكنا فعلى أي أساس، ولأي علة. وفي خلال هذه المباحثات النظرية، اضطر العلماء إلى الخوض في الطبيعة التي تتركب منها الجواهر المختلفة، مع تصنيف هذه الجواهر أو المعادن، ووصف مظاهرها وخواصها، فظفر العلم بكثير من الثروة الجديدة. لقد وجد علم الكيمياء اذن، وتقدم عند العرب، ونقله الأوروبيون عنهم، وكان أول كيمائي بمعنى الكلمة هو جابر.
ويحكي جابر في بعض رسائله انه حين كان في بلاد العرب تعلم القرآن والنحو والقراءة والكتابة والحساب على يد شخص يسمى (حربي الحميري). وهذا الشخص قد نسجت حوله الأساطير حتى قيل إنه من المعمرين الذين عاشوا أربعمائة سنة.
امضى جابر في الكوفة - في أكبر الظن - زمنا، واتصل بعد ذلك بجعفر الصادق، ثم بالبرامكة الذين قدموه إلى بلاط الرشيد. اتصل بيحيى البرمكي أولا، ثم بابنه جعفر بعد ذلك. ولندع جابرا يقص حكاية اتصاله بيحيى لطرافتها قال في كتاب (الخواص الكبير) وهو يتحدث عن الإكسير وكيف خلص به كثيرا من الناس وشفاهم ما نصه:
(ولقد كنت يوما من الأيام بعد ظهور أمري بهذه العلوم وبخدمة سيدي - يريد جعفر الصادق - عند يحيى بن خالد. وكان له جارية نفيسة لم يكن لاحد مثلها جمالا وكمالا وأدبا وعقلا وصنائع توصف بها. وكانت قد شربت دواء مسهلا لعلة كانت بها، فعنف عليها بالقيام، ثم زاد عليها إلى أن قامت ما لم يكن من سبيل لمثلها شفاء. ثم ذرعها مع ذلك القئ حتى لم تقدر على التنفس ولا الكلام البتة، فخرج الصارخ إلى يحيى بذلك، فقال لي: يا سيدي ما عندك في ذلك؟ فأشرت عليه بالماء البارد وصبه عليها، لأني لم أرها، ولم اعرف في ذلك من الشفاء للسموم ولقطعه مثل ذلك.
فلم ينفعها شئ بارد ولا حار أيضا، وذلك اني كمدت معدتها بالملح المحمى وغمرت رجليها. فلما زاد الأمر سألني ان أراها، فرأيت ميتة خاملة القوة جدا. وكان معي من هذا الإكسير شئ، فسقيتها منه وزن حبتين بسكنجبين (1) صرف مقدار ثلاث أواق. فوالله، وحق سيدي، سترت وجهي عن هذه الجارية، لأنها عادت إلى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف ساعة زمانية. فأكب يحيى على رجلي مقبلا لهما. فقلت له:
يا أخي لا تفعل. فسألني فائدة الدواء، فقلت له: خذ ما معي منه، فلم يفعل. ثم إنه اخذ في الرياضة والدراسة للعلوم وأمثال ذلك، إلى أن عرف أشياء كثيرة. وكان ابنه جعفر أذكى منه واعرف (2)).
وتطلعنا هذه القصة على أن جابرا كان طبيبا، وكان يستخدم في العلاج دواء يسميه (الإكسير) يبدو أنه كان يشفي من كثير من العلل.
فلما اتصل جابر بيحيى وابنيه: الفضل وجعفر، قدمه هؤلاء البرامكة إلى الرشيد. ويزعم الجلدكي في كتابه (نهاية الطلب) (3) ان جابرا كان السبب الذي دعا الرشيد ان يرسل إلى ملك الروم يطلب كتب الحكمة، فأرسل اليه منها جملة كثيرة عربها حنين بن إسحاق وابن بختيشوع وغيرهما.
ونحن نعرف ان أول نقل في الاسلام هو الذي أمر به خالد بن يزيد الأموي، وكان ذلك بسبب رغبته في علم الكيمياء بالذات. وليس ثمة