وقال:
وان الذي أحذاني الشيب للذي * رأيت ولم تكمل لي السبع والعشر وقال من قصيدة:
نسج المشيب له قناعا (لفاعا) مغدفا * يققا فقنع مذرويه ونصفا نظر الزمان اليه قطع دونه * نظر الشفيق تحسرا وتلهفا ما اسود حتى ابيض كالكرم الذي * لم يأن حتى جئ كيما يقطفا لما تفوقت الخطوب سوادها * بياضها عبثت به فتفوفا ما كان يخطر قبل ذا في فكره * في البدر قبل تمامه أن يكسفا حكى المرتضى في الشهاب عن أبي القاسم الآمدي في الموازنة أنه قال : معنى نصفا أي قنع جانبي رأسه حتى يبلغ النصف منه وقيل أراد بنصفا النصيف وهو قناع لطيف يكون مثل نصف القناع الكبير وقد ذكره النابغة فقال (سقط النصيف ولم ترد اسقاطه) وذلك لا وجه له بعد ذكر القناع وانما أراد أبو تمام ما أراده الآخر بقوله أصبح الشيب في المفارق شاعا * واكتسى الرأس من مشيب قناعا فالمعنى مكنف بقوله قنع مذرويه وقوله نصف أي بلغ نصف رأسه (اه).
وقال المرتضى هذا غير صحيح لأنه لا يجوز أن يريد بقوله نصفا بلغ نصف رأسه لأنه قد سماه لفاعا واللفاع ما اشتمل به المتلفع فغطى رأسه جميعه ولأنه جعله أيضا مغدفا والمغدف المسبل السابغ التام فهو يصفه بالسبوع على ما ترى فكيف يصفه مع ذلك بأنه بلغ نصف رأسه فالكلام بغير ما ذكره الآمدي أشبه ويحتمل وجهين (أحدهما) أن يريد بنصفا النصيف الذي هو الخمار والخمار ما ستر الوجه فكأنه لما ذكر انه قنع مذرويه وهما جانبا رأسه أراد أن يصفه بالتعدي إلى شعر وجهه فقال نصفا من النصيف الذي هو الخمار المختص بهذا الموضع وليس النصيف القناع اللطيف على ما ظنه الآمدي بل هو الخمار وقد نص أهل اللغة على ذلك في كتبهم وبيت النابغة الذي أنشد بعضه شاهد عليه لأنه قال:
سقط النصيف ولم ترد اسقاطه * فتناولته واتقتنا باليد وانما اتقت بيدها بان سترت وجهها عن النظر اليه فأقامت يدها مقام الخمار بهذا الموضع (ثانيهما) أن يكون معنى نصفا بلغ الخمسين وما قاربها إذ يقال فيمن أسن ولم يبلغ الهرم انه نصف وان كان النصف انما يستعمل في النساء فقط لكن لا مانع من استعماله فيهما ولو على سبيل الاستعارة في الرجال ويكون ضمير نصفا راجعا إلى ذي الشيب الراجع اليه ضمير له ومذرويه لا إلى الشيب (اه) ولا يخفى ان المناسب هو الوجه الأول والثاني بعيد قوله لم يأن حتى جئ الخ قال المرتضى في الشهاب: رأيت الآمدي يسرف في استرذال قوله (لم يأن حتى جئ كيما يعطفا) ولعمري انه لفظ غير مطبوع وفيه أدنى ثقل ومثل ذلك يغفر لما لا يزال يتوالى من احسانه ويترادف من تجويده (اه) (قوله) ما كان يخطر البيت قال المرتضى: وجدت الآمدي يذم أبا تمام غاية الذم على هذا البيت ويصفه بغاية الاضطراب والاختلال وليس الامر على ما ظنه إذ البيت جيد وانما ليس رونق الطبع فيه ظاهرا وليس ذلك بعيب (اه) وقال من قصيدة.
شاب رأسي وما رأيت مشيب الر * أس الا من فضل شيب الفؤاد وكذاك القلوب في كل بؤس * ونعيم طلائع الأجساد طال انكاري البياض وان عمرت شيئا أنكرت لون السواد نال رأسي من ثغرة الهم داء * لم ينله من ثغرة الميلاد زارني شخصه بطلعة ضيم * عمرت مجلسي من العواد في الشهاب رأيت الآمدي يقول إن قوما عابوا أبا تمام بقوله شيب الفؤاد وليس عندي بمعيب لأنه لما كان الجالب للشيب القلب المهموم نسب الشيب اليه على الاستعارة وقد أحسن عندي ولم يسئ (اه) قال المرتضى فيقال له قد أحسن الرجل بلا شك ولم يسئ وما المعيب إلا من عابه. وأما أنت أيها الآمدي فقد نفيت عنه الخطأ واعتذرت له باعتذار غير صحيح لأن القلب إذا كان جالبا للشيب كيف يصح أن يقال قد شاب هو نفسه وانما يقال إنه اشاب ولا يقال شاب والعذر الصحيح لأبي تمام أن الفؤاد لما كان عليه مدار الجسد في قوة وضعف وزيادة ونقص ثم شاب رأسه لم يخل ذلك الشيب من أن يكون من اجل تقادم السن وطول العمر أو من زيادة الهموم والشدائد وفي كلا الحالين لا بد من تغير حال الفؤاد فسمي تغير أحواله شيبا استعارة ومجازا كما كان تغير لون الشعر شيبا والبيت الثاني يشهد بما قلناه لأنه جعل القلوب طلائع الأجساد في كل بؤس ونعيم (اه) (قوله) نال رأسي (البيت) في الشهاب: ثغرة الهم ناحيته وكذلك ثغرة الميلاد والثغرة في كلامهم هي الفرجة والثلمة وهي الثغر وهو البلد المجاور لبلد الأعداء البادي لهم فكان أبا تمام أراد ان الهموم هي الجالبة لشيبه والتي دخل من قبلها على رأسه الشيب دون جهة الميلاد لأنه لم يبلغ من السن ما يقتضي نزول الشيب وقال الآمدي كان وجه الكلام ان يقول من ثغرة الكبر أو من ثغرة السن لا من ثغرة الميلاد. قال المرتضى وهذا منه ليس بصحيح لأن العبارات الثلاث بمعنى واحد ويقوم بعضها مقام بعض لأن الميلاد عبارة عن السن فمن تقادمت سنه تقادم ميلاده ومن قربت سنه وقصرت قصر وقرب زمن ميلاده وانكر أيضا الآمدي قوله: نال رأسي وقال كان يجب أن يقول حل برأسي أو نزل برأسي قال المرتضى والامر بخلاف ما ظنه لأن الجميع واحد وما نال رأسه فقد حل به ونزل (اه) (قوله) عمرت مجلسي من العواد.
في الشهاب قال الآمدي هذا لا حقيقة له لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحدا جاءه عواده يعودونه من الشيب ولا ان أحدا أمرضه الشيب وقد قال الشاعر.
أليس عجيبا بان الفتى * يصاب ببعض الذي في يديه فمن بين باك له موجع * و بين معز مغذ اليه ويسلبه الشيب شرخ الشباب * فليس يعزيه خلق عليه فأحب أبو تمام ان يخرج من عادات بني آدم ويكون أمة وحده وقال المرتضى فيقال له لم لم تقطن لمعنى أبي تمام فذممته وقد تكلمنا على هذه الوهلة منك في كتابنا المعروف بغرر الفرائد وقلنا انه لم يرد العيادة الحقيقية وانما تلطف في الاستعارة والتشبيه والمعنى ان الشيب لما طرقني كثر عندي المتوجعون لي منه والمتأسفون على شبابي اما بقول أو بما هو معلوم من قصدهم فسماهم عوادا بجامع التوجع. وذكر وجها آخر وهو ان يريد الاخبار عن وجوب عيادته فجعل ما يجب ان يكون كائنا واقعا ونظائره كثيرة في القرآن وكلام العرب كقوله تعالى ومن دخله كان آمنا، أي يجب أن يكون كذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: العارية مردودة والأمانة مؤداة والزعيم غارم وهو من هذا الباب (اه) ونحن نقول لا حاجة إلى هذا كله فأبو تمام يقول زارني الشيب بطلعة ضيم فأمرضني مرضا شديدا بسبب ما نالني من الغيظ لكرهي له فكثر عوادي وهذا من باب المبالغة والادعاء