واتصاف الحق بالجود والعفو عن الجاني أعظم من المؤاخذة على الإساءة فإن المؤاخذة والعقوبة جزاء وما في الجزاء على الشر فضل إلا إذا كان في الدنيا لما في إقامة الحدود من دفع المضرة العامة وما في ذلك من المصالح التي تعود على الناس مثل قوله عز وجل ولكم في القصاص حياة وأما في الآخرة فما ثم ما يندفع بجزاء المسئ ما يندفع به في الدنيا فكان العبد إذا قال هذا يوم القيامة أو حيث قاله لله بطريق الشفاعة كأنه ناصح للمقام الإلهي في أن يثني عليه إذا عفا عن المسئ بالكرم والطول والفضل فإن في ذلك عين الامتنان فهذا معنى قوله الدين النصيحة لله أي في حق الله فإنه يسعى في أن يثني على الله إذا عفا بما يكون ثناء حسنا ولا سيما وقد ورد في الحديث الثابت أنه لا شئ أحب إلى الله من أن يمدح فكما أنه مدح في الدنيا بما نصب من الحدود التي درأ بها المضار عن عباده إذا أقامها أئمة المسلمين على المذنبين كذلك يمدح بالعفو والتجاوز في الدار الآخرة لأنه هنالك ما تمشي هذه المصلحة التي نصبت من أجلها إقامة الحدود التي لا يتمكن الشفاعة فيها كحد السارق والزاني وحقوق الله على الإطلاق وأما ما هو حق للعبد فإن الله قد ندب فيه إلى العفو والتجاوز فالعفو من ولي الدم أو قبول الدية فإن المظلوم هو المقتول وقد مات فالطالب قد تقدم كالشاكي الذي يمشي إلى السلطان رافعا على من ظلمه فجعل الدية كالإحسان لولي الدم لعل ذلك الشاكي إذا بلغه إحسانه لذوي رحمه يسكت عنه ولا يطالبه عند الله الحكم العدل بشئ من دمه وأما النصيحة لرسول الله ص ففي زمانه إذا رأى منه الصاحب أمرا قد قرر خلافه والإنسان صاحب غفلات فينبه الصاحب رسول الله ص على ذلك حتى يواصل فعله بالقصد فيكون حكما مشروعا أو فعله عن نسيان فيرجع عنه فهذا من النصح لرسول الله ص مثل سهوه في الصلاة فالواجب عليه في الرباعية أن يصليها أربعا فسلم من اثنتين فقيل له في ذلك فهذه نصيحة لرسول الله ص فرجع وأتم صلاته وسجد سجدتي السهو وكان ما قد روى في ذلك وأمثال هذا ولهذا أمر الله عز وجل نبيه ص بمشاورة أصحابه فيما لم يوح إليه فيه فإذا شاورهم تعين عليهم أن ينصحوه فيما شاورهم فيه على قدر علمهم وما يقتضيه نظرهم في ذلك أنه مصلحة كنز وله يوم بدر على غير ماء فنصحوه وأمروه أن يكون الماء في حيزه ص ففعل ونصحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قتل أسارى بدر حين أشار بذلك وأما بعد رسول الله ص فلم تبق له نصيحة ولكن إذا كانت هذه اللام لام الأجلية بقيت النصيحة فهذا قد بينا ما في نصيحة رسول الله ص أن المشير الناصح قد جمع بين رسول الله ص وبين الرأي الذي فيه المصلحة كما يجمع الناصح الذي هو الخائط بالخياطة بين قطعة الكم والبدن في الثوب وأما النصيحة لأئمة المسلمين وهم ولاة الأمور منا القائمون بمصالح عباد الله الدينية والحكام وأهل الفتاوى في الدين من العلماء يدخلون في أئمة المسلمين أيضا فإن كان الحاكم عالما كان وإن لم يكن من العلماء بتلك المسألة سأل من يعلم عن الحكم فيها فيتعين على المفتي أن ينصح ويفتيه بما يراه أنه حق عنده ويذكر له دليله على ما أفتاه به فيخلصه عند الله فهذه هي النصيحة لأئمة المسلمين ولما لم تفرض العصمة لأئمة المسلمين وعلم أنهم قد يخطئون ويتبعون أهوائهم تعين على أهل الدين من العلماء بالدين أن ينصحوا أئمة المسلمين ويردوهم عن اتباع أهوائهم في الناس فيؤلفون بين ما هو الدين عليه وبينهم فمثل هذا هو النصح لأئمة المسلمين فيعود على الناس نفع ذلك وأما النصيحة لعامتهم فمعلومة وهي أن يشير عليهم بما لهم فيه المصلحة التي لا تضرهم في دينهم ولا دنياهم فإن كان ولا بد من ضرر يقوم من ذلك أما في الدين أو في الدنيا فيرجحوا في النصيحة ضرر الدنيا على ضرر الدين فيشيرون عليهم بما يسلم لهم فيه دينهم فإن الله يقول ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال دين الله يسر وقال فاتقوا الله ما استعطتم وإن أضر بدنياهم ومهما قدروا على دفع الضرر في الدين والدنيا معا بوجه من الوجوه وعرفوه تعين عليهم في الدين أن ينصحوه في ذلك ويبينوه والمستفتي بالخيار في ذلك بحسب ما يوفقه الله إليه والذي أقول به إن النصيحة تعم إذ هي عين الدين وهي صفة الناصح فتسري منفعتها في جميع العالم كله من الناصح الذي يستبرئ لدينه ويطلب معالي الأمور فيرى حيوانا قد أضربه العطش وقد حاد ذلك الحيوان عن
(٤٦٩)