تجد الحق في الذي * تبتغي منه واهبا فالعبد الصحيح التوبة أن يتوب الله عليه لا ليتوب بل يجرم وأنت تعفو تكرما حتى لا يكون رجوعك بالمغفرة على المذنب جزاء فيكون هو الذي عاد على نفسه بالمغفرة منك فأين المنة في الرجعة الثانية التي هي رجعة المغفرة إن لم تغفر من غير توبة من المذنب فرجوع الله ينبغي أن يكون رجوع امتنان كالرجعة الأولى في قوله ثم تاب عليهم ليتوبوا فهذه الأولى توبة امتنان فإذا تاب عليهم بالمغفرة بعد توبتهم كانت هذه التوبة الإلهية جزاء لا يتخلص الامتنان الإلهي فيها إلا على بعد وهو أن يرجع العبد في توبته إلى التوبة الأولى الإلهية التي جعلته أن يتوب وتوبة الامتنان أيسر من توبة الجزاء وهي توبة الجواد الواهب المحسان الذي يعطي لينعم لا لعلة موجبة عقلا ولا شرعا وهذه إشارة كافية لمن أراد التخلق بأخلاق الكرم فمن كرمه كتب على نفسه الرحمة فالكريم المطلق من جازى على السيئة إحسانا فإن المحسن هو الذي أخذ الإحسان بإحسانه فلا يتبين فضل المحسن فإنه ما على المحسنين من سبيل فافهم وتحقق عسى تلحق والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (العفو حضرة العفو) عفوت عن إلجائي وما زال عفونا * يسير بنا حتى أنخنا بداره فلما أنخنا قال من ذا فقلت من * حقيق على جار يقوم بحاره فإن عجز المسكين عن حق جاره * فلم يبق إلا أن يكون بداره ولو أنه من كان فالحفظ قائم * عليه به منه لبعد مزاره فإني له كالبدر عند امتلائه * بنور معاليه وعند سراره يدعى صاحبها عبد العفو قال الله تعالى إن الله عفو غفور هذه الحضرة تشبه حضرة الجلال لأنها تجمع الضدين وهذه تجمع بالدلالة بين القليل والكثير هكذا هي في أصل وضع اللسان كالجليل يجمع بين العظيم والحقير فالعفو الإلهي في جناب الحق كالقناعة وهي الاكتفاء بالموجود من غير مزيد والكثير ما زاد على ما تدعو إليه الحاجة فاتصاف الحضرة بالعفو إنها تعطي ما تقتضيه الحاجة لا بد من ذلك من كونه سخيا وحكيما ثم يزيد في العطاء من كونه منعما مفضلا غير محجور عليه ولا تقضي عليه الحاجات بالاقتصار على ما يكون به الاكتفاء فالعطاء للانعام هو العطاء الحق عطاء الجود والمنة لا تحكم عليه العلل ولا يدخله ملل فإنه قد ورد في الصحيح أن الله لا يمل حتى تملوا فإذا تركتم ترك فمن أعطى بعد سؤاله وبذل ماء وجهه فإنما أعطى جزاء ومن أعطى ليشكر فقد أعطى لعلة يعود خيرها عليه ومن أعطى بعد الشكر فقد أعطى جزاء وفاقا وهذه التقييدات كلها تعطيها حضرة العفو والإطلاق فيها من غير تقييد تعطيه أيضا حضرة العفو فلذلك يطلق على القليل والكثير ومنه إعفاء اللحية فاختلف الناس في إعفائها ما أراد الشرع بهذه اللفظة هل أراد تكثيرها بأن لا يقص منها كما يقص من الشارب وإذا لم يقص منها كثرت وقد يريد أن يأخذ منها قليلا بكونه قال ذلك عند قوله أحفوا الشارب وأعفوا اللحي وإحفاء الشوارب استئصالها بالقص فيحتمل إعفاء اللحية أن لا يستأصلها ويأخذ منها القليل فمن فهم من هذا الحكم طلب الزينة الإلهية في قوله قل من حرم زينة الله نظر في لحيته فإن كانت الزينة في توفيرها وأن لا يأخذ منها شيئا تركها وإن كانت الزينة أظهر في أن يأخذ منها قليلا حتى تكون معتدلة تليق بالوجه وتزينه أخذ منها على هذا الحد وقد ورد أن النبي ص كان يأخذ من طول اللحية لا من عرضها فتوجه معنى العفو بالقلة والكثرة على اللحية وأما في المؤاخذة على الذنوب فقال ويعفو عن كثير فيأخذ على القليل فيدل هذا العفو على أنه لا بد من المؤاخذة ولكن في قلة والقلة قد تكون بالزمان الصغير المدة ثم يغفر الله ويجود بالإنعام ورفع الألم عن المذنب المسلم وقد يكون بالحال فيقل عليه الآلام بالنظر إلى آلام هي أشد منها أين قرصة البرغوث من لدع الحية ليس بين ألميهما نسبة وكل واحد منهما مؤلم لكن ثم ألم قليل وألم كثير فأهل الاستحقاق وهم المجرمون
(٣٠٣)