فإني إن نظرت فيه حتى أعرفه فربما أعرفه المعرفة التي تليق بهذا النظر وليست المطلوبة فإن الذي طلب سبحانه أن نعرفه معرفة الارتباط به وتلك المعرفة التي عدل إليها من عدل لا تعطي الارتباط فلم تحصل الفائدة التي قصد الله بها عبده فالأديب يرجع بالنظر إلى نفسه عن أمر ربه فإذا عرف نفسه فكرا أو شهودا عرف ارتباطه بربه فعرف ربه تنزيها وتشبيها معرفة عقلية شرعية إلهية تامة كاملة غير ناقصة كما شاء الحق فإنه تعالى أبان لنا في هذه الإحالة عن أحسن الطرق والعلم به فتبين لنا أنه الحق وأنه على كل شئ شهيد وقال في حق من عدل عن هذا النظر بالنظر فيه ابتداء ألا أنهم في مرية من لقاء ربهم فلو رجعوا إلى ما دعاهم إليه من النظر في نفوسهم لم يكونوا في مرية من لقاء ربهم فإنهم يجدونه في عين نفوسهم ثم تمم وقال إلا أنه بكل شئ محيط وأراد هنا شيئية الوجود لا شيئية الثبوت فإن الأمر هناك لا يتصف بالإحاطة فمن وقف مع ما ذكرناه كان ممن اتعظ فإن شاء أخذ بنصيبه من الورث فوعظ وإن شاء بقي في النظر على حاله بنفسه دائما فإن النفس بحر لا ساحل له لا يتناهى النظر فيها دنيا وآخرة وهي الدليل الأقرب فكلما ازداد نظر ازداد علما بها وكلما ازداد علما بها ازداد علما بربه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (الباب الثالث والخمسون وأربعمائة في معرفة منازلة كرمي ما وهبتك من الأموال وكرم كرمي ما وهبتك من عفوك عن الجاني عليك) حكم الكريم بأنه لا يمنع * ذاك المسمى عندنا كرم الكرم فهو الذي يهب النعيم لذاته * ولديه بالبرهان مفتاح النعم انظر لحمد الحمد إن حققته * ما عنده منع ولا في ذاك ذم قال الله تعالى معلما ومنبها يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم فنبهه حتى يقول كرمك فهذا من باب كرم الكرم فما أمرك بالعفو عمن جنى عليك إلا ليعفو عنك إذا جنيت عليه في ظنك وما جنيت إلا على نفسك وظنك أرداك حيث ظننت إنك جنيت عليه كما قال الله تعالى ولكن ظننتم إن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين اعلم أن أعظم الجنايات من يهتك وهو أن ينسب إليك ما لم يكن منك وإن ظهر منك فيكون من كرم خلقك أن تصدقه فيما نسب إليك إيثارا لجنابه على نفسك وهو على خلق كريم في ذلك وقد علم منك أنك تأدبت معه فما يكون جزاؤك عنده فمثل هذا لا يبلغ كنه ما يستحقه من الإفضال عليه والإنعام لأن الأعراض عند ذوي إلهيات والمروءات أعظم في الحرمة من الدماء والأموال وما فعل مثل هذا في حقك إلا ليرى صبرك وتحملك مثل هذا الأذى والجفاء فإنه يعلم أنك تعلم براءة ساحتك مما نسب إليك من المذام التي كانت منه لا منك إيجادا وحكما وأنت برئ منها إيجادا وحكما فلم تفش له سرا ولم تنازعه ففزت زائدا على ما تستحقه بدرجات الصابرين والراضين والمؤثرين واستعذبت كل ذلك في جنبه ونبهنا تبارك وتعالى على عظيم المنزلة لمن هذه صفته بقوله فمن عفا وأصلح وأعظم العفو على الجناية العظيمة من العظيم الشأن ثم رميه بها من لم تصدر منه تنزيها له وإيثارا لنفسه قال فأجره على الله فيا ليت شعري لم كان أجره على الله ولم يقل فأجره على صبره وإيثاره كذا وكذا فتنبه إلى هذا الأمر العجاب ولا تكن من الغافلين وألزم الحضور والأدب مع الله قلبك إن أردت أن تكون من أهل الله وخاصته الذين جعلوا نفوسهم وقاية لله جعلنا الله ممن اتقاه بنفسه لا به فيحشر في زمرة الأدباء وفي هذه الإشارة في كرم الكرم غنية وكفاية والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (الباب الرابع والخمسون وأربعمائة في معرفة منازلة لا يقوى معنا في حضرتنا غريب وإنما المعروف لأولي القربى) أولو القربى هم الحكام فينا * وفي أموالنا ولنا القياد فإن جاء الغريب يقيم يوما * ويرحل مسرعا وهو المراد قريب قرابة وقريب قربى * جمعناها فيحسدنا العباد فما أحد يدوم به شقاء * ولا كون يزول ولا فساد
(٦٨)