إيعادك ولكن سم إخلاف إيعادك تجاوزا حتى لا تتسمى بأنك مخلف ما أوعدت به من الشر وهذه شبهة المعتزلة وغاب عنها قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وما تواطئوا عليه أعني الأعراب إذا أوعدت أو وعدت بالشر التجاوز عنه وجعلت ذلك من مكارم الأخلاق فعاملهم الحق بما تواطئوا عليه فزلت هنا المعتزلة زلة عظيمة أوقعها في ذلك استحالة الكذب على الله تعالى في خبره وما علمت إن مثل هذا لا يسمى كذبا في العرف الذي نزل به الشرع فحجبهم دليل عقلي عن علم وضع حكمي وهذا من قصور بعض العقول ووقوفها في كل موطن مع أدلتها ولا ينبغي لها ذلك ولتنظر إلى المقاصد الشرعية في الخطاب ومن خاطب وبأي لسان خاطب وبأي عرف أوقع المعاملة في تلك الأمة المخصوصة يقول بعض الأعراب في كرم خلقه وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي لكن لا ينبغي أن يقال مخلف بل ينبغي أن يقال إنه عفو متجاوز عن عبده (وصية) وعليك بالبذاذة فإنها من الايمان وهي عدم الترفه في الدنيا وقد ورد قوله اخشوشنوا وهي من صفات الحاج وصفة أهل يوم القيامة فإنهم شعث غير حفاة فإن ذلك كله أنفى للكبر وأبعد من العجب والزهو والخيلاء والصلف وهي أمور ذمها الشرع وكرهها وهي مذمومة في العرف عند الناس وعند الله ولذلك جعل النبي ص البذاذة من الايمان وألحقها بشعبه فإن النبي ص يقول الايمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ولا شك أن الزهو والعجب والكبر أذى في طريق سعادة المؤمن ولا يماط هذا الأذى إلا بالبذاذة فلهذا جعلها رسول الله ص من الايمان (وصية) وعليك بالحياء فإن الله حيي والحياء من الايمان والحياء خير كله وإن الله يستحي من ذي الشيبة يوم القيامة فإن العبد إذا اتصف بالحياء من الله ترك كل ما لا يرضى الله وما يشينه عند الله تعالى وعند رسول الله ص والحياء معناه الترك قال الله تعالى إن الله لا يستحيي يقول إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها في الصغر لقول من ضل بهذا المثل من المشركين الذين تكلموا فيه فإن الله قال يضل به أي بهذا المثل كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين فإنهم حاروا فيه والضلالة الحيرة ورأوا عزة الله وجلاله وكبرياءه وحقارة البعوضة في المخلوقات فاستعظموا جلال الله أن ينزل في ضرب المثل لعباده هذا النزول وذلك لجهلهم بالأمور فإنه لا فرق بين أعظم المخلوقات وهو العرش المحيط وبين الذرة في الخلق والبعوضة وإخراجها من العدم إلى الوجود فما هي حقيرة إلا من صغر جسمها إذا أضفته إلى ذي الجسم الكبير بل الحكمة في البعوضة أتم والقدرة أنفذ فإن البعوضة على صغرها خلقها الله على صورة الفيل على عظمه فخلق البعوضة أعظم في الدلالة على قدرة خالقها من الفيل لأهل النظر والاعتبار ولهذا لم يصف نفسه بالحياء في ذلك لما فيها من الدلالة على تعظيم الحق ثم إن مواطن الحياء التي في الإنسان كثيرة فإن الحياء صفة يسرى نفعها ممن قامت به في أكثر الأشياء ولهذا قال الحياء خير كله والحياء لا يأتي إلا بخير وهو أن لا يفعل الإنسان ما يخجل فيه إذا عرف منه بأنه فعله وقد علم المؤمن أن الله يعلم ويرى كلما يتحرك فيه العبد فيلزمه الحياء منه لعلمه بذلك ولإيمانه أنه لا بد أن يقرره يوم القيامة على ما عمله فيخجل فيؤديه ذلك إلى ترك العمل فيه وذلك هو الحياء فمن هنا لا يأتي إلا بخير والله أحق أن يستحيي منه (وصية) وعليك بالنصيحة على الإطلاق فإنها الدين خرج مسلم في الصحيح عن رسول الله ص أنه قال الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم واعلم أن النصاح الخيط والمنصحة الإبرة والناصح الخائط والخائط هو الذي يؤلف أجزاء الثوب حتى يصير قميصا أو ما كان فينتفع به بتأليفه إياه وما ألفه إلا بنصحه والناصح في دين الله هو الذي يؤلف بين عباد الله وبين ما فيه سعادتهم عند الله ويؤلف بين الله وبين خلقه وهو قوله النصيحة لله وفيه تنبيه في الشفاعة عند الله إذا رأى العبد الناصح أن الله يريد مؤاخذة العبد على جريمته فيقول لله يا رب إنك ندبت إلى العفو عبادك وجعلت ذلك من مكارم الأخلاق وهو أولى من جزاء المسئ بما يسؤه وذكرت للعبد أن أجر العافين عن الناس فيما أساءوا إليهم فيه مما توجهت عليهم به الحقوق على الله فأنت أحق بهذه لصفة لما أنت عليه من الجود والكرم والامتنان ولا مكره لك فأنت أهل العفو والتكرم بالتجاوز عن هذا العبد المسئ المتعدي حدودك عن إساءته وإسبال ذيل الكرة عليه
(٤٦٨)