الثاني - قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا عبرة بأعلام البلد كالمنارة والقلاع والقباب، قالوا: ولا عبرة بسماع الأذان المفرط في العلو كما أنه لا عبرة بخفاء الأذان المفرط في الانخفاض. أقول: والجميع من ما لا بأس به حملا للروايات المتقدمة على ما هو الغالب المعروف.
ثم إنهم صرحوا أيضا بأن ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من خفاء البيوت وخفاء الأذان المراد به بيوت البلد وأذانه بالنسبة إلى القرية والبلد الصغيرة أو المتوسطة، وأما لو كان البلد كبيرة متسعة - قالوا وهي التي اتسعت خطتها بحيث تخرج عن العادة - فإنهم جعلوا لكل محلة منها حكم نفسها بالنسبة إلى تقدير مسافة الترخص التي هي عبارة عن خفاء الأذان والجدران عند السفر منها، فقالوا إن الاعتبار في خفاء الأذان والجدران الموجب للتقصير مبدأه من آخره خطة البلد إلا أن تكون متسعة على الوجه المذكور فالمعتبر جدران آخر المحلة، وكذا أذان مسجد المحلة.
ولم نظفر لهم في هذا الفرق والتفصيل ولا في اعتبار المحلة وبدليل يعتمد عليه ولم يصرح أحد منهم بالدليل على ذلك وكأنه أمر مسلم بينهم، بل ربما دلت ظواهر الأخبار المتقدمة على رده نظرا إلى اطلاقها أو عمومها.
ويعضد ذلك أيضا موثقة غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه الباقر (عليهما السلام) (1) " أنه كان يقصر الصلاة حين يخرج من الكوفة في أول صلاة تحضره " والتقريب فيها أنه لا ريب أن الكوفة كانت من البلدان العظام المتسعة والخبر دل على أنه إنما يقصر الصلاة بعد الخروج منها، والخروج منها وإن كان بحسب ما يتراءى في بادئ النظر مجملا إلا أنك بمعونة ما عرفت سابقا من أن حدود البلد عبارة عن ما ينتهي إلى محل الترخص فالمراد بالخروج منها حينئذ هو الوصول إلى ذلك المكان، ولو كان الحكم كما ذكروه من الاعتبار بالمحلة في البلد المتسعة والحال أن هذه البلد كذلك