في الشهوات تاركين الصلوات لا يسمعون الموعظة ولا ينفعهم التذكرة لا جرم أن من هذه صفته يمهلون قليلا ويتمتعون يسيرا ثم تجيئهم سكرة الموت بالحق ذلك ما كانوا منه يحيدون شاءوا أم أبوا فيفارقون محبوبهم على رغم منهم ويتركون ما جمعوه لغيرهم يتمتع بمال أحدهم حليل زوجته وامرأة ابنه وبعل ابنته وصاحب ميراثه للوارث المهنأة وعليهم الوبال ثقيل ظهره بأوزاره معذب النفس بما كسبت يداه يا حسرة عليه إذا قامت على أبنائها القيامة فاحذروا إن تكونوا من هؤلاء وكونوا من الذين أخذوا من عاجلهم لآجلهم ومن حياتهم لموتهم كما قال ص فيهم صحبوا الدنيا بأجساد أرواحها معلقة بالمحل الأعلى (وصية) قال بعض الصالحين يوصي إنسانا احذر أن تنقطع عنه فتكون مخدوعا قال له وكيف يكون ذلك قال لأن المخدوع من ينظر إلى عطاياه وينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه ثم قال تعلق الناس بالأسباب وتعلق الصديقون بولي الأسباب ثم قال علامة تعلقهم بالعطايا طلبهم منه العطايا ومن علامات تعلق قلب الصديق بولي العطايا انصباب العطايا عليه وشغله عنها به ثم قال ليكن اعتمادك على الله في الحال لا على الحال ثم قال أعقل فإن هذا من صفوة التوحيد (وصية نبوية روحية) قال عيسى ع لبعض أصحابه وصية صم عن الدنيا واجعل فطرك الموت وكن كالمداوي جرحه بالدواء خشية أن ينغل عليه وعليك بكثرة ذكر الموت فإن الموت يأتي إلى المؤمن بخير لا شر بعده وإلى الشرير بشر لا خير بعده (وصية بتنبيه) قال ذو النون ثلاثة من أعلام الايمان اغتمام القلب بمصائب المسلمين وبذل النصيحة لهم متجرعا لمرارة ظنونهم وإرشادهم إلى مصالحهم وإن جهلوه وكرهوه قال أحمد بن أحمد بن سلمة أوصاني ذو النون لا تشغلنك عيوب الناس عن عيب نفسك لست عليهم برقيب ثم قال إن أحب عباد الله إلى الله عز وجل أعقلهم عنه وإنما يستدل على تمام عقل الرجل وتواضعه في عقله حسن استماعه للمحدث وإن كان به عالما وسرعة قبوله للحق وإن جاء ممن هو دونه وإقراره على نفسه بالخطأ إذا جاء به (وصية) أوصى بها راهب عارفا من المسلمين اجتاز بعض العارفين في سياحته براهب في صومعة على رأس جبل فوقف به فناداه يا راهب فأخرج الراهب رأسه من صومعته وقال من ذا قال رجل من أبناء جنسك الآدميين قال فما ذا تريد قال كيف الطريق إلى الله قال الراهب في خلاف الهوى قال فما خير الزاد قال التقوى قال فلم تبعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة قال مخافة على قلبي من فتنتهم وحذرا على عقلي الحيرة من سوء عشرتهم وطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم وقبيح فعالهم وجعلت معاملتي مع ربي فاسترحت منهم قال فخبرني يا أحد تباع المسيح كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم واصدق القول لي ودع عنك تزويق الكلام وزخرف القول فسكت الراهب ساعة متفكرا ثم قال شر معاملة تكون قال له العارف كيف قال لأنه أمرتا بالكد للأبدان وجهد النفوس وصيام النهار وقيام الليل وترك الشهوات المركوزة في الجبلة ومخالفة الهوى الغالب ومجاهدة العدو المسلط والرضي وخشونة العيش والصبر على الشدائد والبلوى ومع هذه كلها جعل الأجر بالسيئة في الآخرة بعد الموت مع بعد الطريق وكثرة الشكوك والحيرة والخوف من الياس فهذه حالتنا في معاملتنا مع ربنا فأخبرنا عنكم يا معشر تباع أحمد كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم قال العارف خير معاملة وأحسنها قال الراهب صف لي ما هي وكيف هي قال العارف ربنا أعطانا سلفا كثيرا قبل العمل ومواهب جزيلة لا تحصى فنون أنواعها من النعم والإحسان والإفضال قبل المعاملة فنحن ليلنا ونهارنا في أنواع نعمه وفنون من آلائه ما بين سالف معتاد وآنف مستفاد قال له الراهب فكيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد قال العارف أما النعمة والإفضال والإحسان فعموم للجميع قد غمرتنا كلنا ولكنا خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق والايمان والتسليم له ووفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا الانقياد للإيمان والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس وملازمة الطريق وتفقد تصاريف الأحوال الطارئة من الغيب ومراعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة ساعة قال الراهب زدني في البيان فإنها وصية عجيبة ما سمعت بمثلها من أهل هذا الشأن قال العارف أزيدك اسمع ما أقوله وافهم ما تسمع واعقل ما تفهم إن الله جل ثناؤه لما خلق الإنسان من طين ولم يك شيئا مذكورا ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين نطفة في قرار مكين ثم قلبه حال
(٥١١)