بعد حال تسعة أشهر إلى أن أخرجه من هناك خلقا سويا ببنية صحيحة وصورة تامة وقامة منتصبة وحواس سالمة ثم زوده من هناك لبنا خالصا لذيذا سائغا للشاربين حولين كاملين ثم رباه وأنشأه وأنماه بفنون لطفه وغرائب حكمته إلى أن يبلغ أشده واستوى ثم آتاه حكما وعلمه ثم أعطاه قلبا زكيا وسمعا دقيقا وبصرا حادا وذوقا لذيذا وشما طيبا ولمسا لينا ولسانا ناطقا وعقلا صحيحا وفهما جيدا وذهنا صافيا وتمييزا وفكرا وروية وإرادة ومشيئة واختيارا وجوارح طائعة ويدين صانعتين ورجلين ساعتين ثم علمه الفصاحة والبيان والخط بالقلم والصنائع والحرف والحرث والزراعة والبيع والشراء والتصرف في المعاش وطلب وجوه المنافع واتخاذ البنيان وطلب العز والسلطان والأمر والنهي والرياسة والتدبير والسياسة وسخر له ما في الأرض جميعا من الحيوان والنبات وخواص المعادن فعدا متحكما عليها تحكم الأرباب متصرفا فيها تصرف الملاك متمتعا بها إلى حين ثم إن الله جل ثناؤه أراد أن يزيده من فضله وإحسانه وجوده وإنعامه فنا آخر هو أشرف وأجل من هذا الذي تقدم ذكره وهو ما أكرم به ملائكته وخالص عباده وأهل جنته من النعيم الأبدي الذي لا يشوبه شئ من النقص ولا من التنغيص إذ كان نعيم الدنيا مشوبا بالبؤس ولذاتها بالآلام وسرورها بالحزن وفرحها بالغم وراحتها بالتعب وعزها بالذل وصفوها بالكدر وغناها بالفقر وصحتها بالسقم أهلها فيها معذبون في صورة المنعمين ومغرورون في صورة الواثقين مهانون في صورة المكرمين وجلون غير مطمئنين خائفون غير آمنين مترددون بين المتضادين نور وظلمة وليل ونهار وصيف وشتاء وحر وبرد ورطب ويابس وعطش ورى وجوع وشبع ونوم ويقظة وراحة وتعب وشباب وهرم وقوة وضعف وحياة وموت وما شاكل هذه الأمور التي أهل الدنيا وأبناؤها فيها مترددون مدفوعون إليها متحيرون فيها فأراد ربي أيها الراهب أن يخلصهم من هذه الأمور والآلام المشوبة باللذات وينقلهم منها إلى نعيم لا بؤس فيه ولذة لا ألم فيها وسرور بلا حزن وفرح بلا غم وعز بلا ذل وكرامة بلا هوان وراحة بلا تعب وصفو بلا كدر وأمن بلا خوف وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وحياة بلا موت وشباب بلا هرم ومودة بين أهلها بلا ريبة فهم في نور لا يشوبه ظلمة ويقظة بلا نوم وذكر بلا غفلة وعلم بلا جهالة وصداقة بين أهلها بلا عداوة ولا حسد ولا غيبة إخوانا على سرر متقابلين آمنين مطمئنين أبد الآبدين ولما لم يمكن الإنسان أن يكون بهذا المزاج المظلم الخاص الذي هو محل القذورات المتولد من الأركان التي لا نليق بتلك الدار الآخرة والصفات الصافية والأحوال الباقية اقتضت العناية الإلهية بواجب حكمة الباري تعالى أن ينشئه نشأة أخرى كما ذكر في قوله تعالى ولقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون النشأة الآخرة إنها على غير مثال كما كانت الأولى على غير مثال فهم في هذه النشأة الآخرة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون وفضلات أطعمتهم وأغذيتهم عرق يخرج من أعراضهم أطيب من ريح المسك فأين هذه النشأة من تلك وأين هذا المزاج من ذاك المزاج مع كونها نشأة طبيعية معتدلة المزاج متساوية الأمشاج قال تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون والله ينشئ النشأة الآخرة فبعث الله جل ثناؤه لهذا السبب أنبياءه إلى عباده يبشرونهم بها ويدعونهم إليها ويرغبونهم فيها ويدلونهم على طريقها كما يطلبوها مستعدين قبل الورود عليها ولكن يسهل عليهم أيضا مفارقة ما لو فات الدنيا من شهواتها ولذاتها وتخف عليهم أيضا شدائد الدنيا ومصائبها إذ كانوا يرجون بعدها ما يعمرها ويمحو ما قبلها من نعيم الدنيا وبؤسها ويحذرهم فوت نعيمها فإنه من فانته فقد خسر خسرانا مبينا قال العارف فهذا رأينا واعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربنا الذي قلت لك وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا وسهل علينا الزهد فيها وترك شهواتها واشتدت رغبتنا في الآخرة وزاد حرصنا في طلبها وخف علينا كد العبادة فلا نحس بها بل نرى ذلك نعمة وكرامة وفخرا وشرفا إذ جعلنا الله أهلا أن نذكره فهدى قلوبنا وشرح صدورنا ونور أبصارنا لما تعرف إلينا بكثرة إنعامه وقنوت إحسانه فقال الراهب جزاك الله خيرا من واعظ ما أبلغه ومن ذاكر إحسان ما أرفقه ومن هادي رشد ما أبصره ومن طبيب رفيق ما أحذقه ومن أخ ناصح ما أشفقه (وصية ونصيحة) قال ذو النون ليس بذي لب من كأس في أمر دنياه وحمق في أمر
(٥١٢)